د. يوسف داوود


        
<p>أثار غياب الدعم العسكري الأوروبي لأوكرانيا موجة من التساؤلات حول قدرة دول الاتحاد الأوروبي –التي تتمتع غالبيتها بعضوية حلف الناتو– على تفعيل إجراءات الدفاع المشترك في مواجهة روسيا، حال حدوث هجوم عسكري فعلي على أي من أراضيها. فرغم أن أوكرانيا ليست عضواً بحلف الناتو، فإن الوعود الرمزية والمساعدات العسكرية التي قدمتها هذه الأخيرة لأوكرانيا، جعلت البعض يعتقد أن الحرب ستكون حتمية بين المعسكرين، وأن دول غرب أوروبا –ومن خلفها الولايات المتحدة– لن تسمح لروسيا بأن تُغلِّب إرادتها السياسية بأي ثمن عن طريق تحقيق انتصار استراتيجي ضمني عليها، بضرب أوكرانيا عسكريّاً.<strong></strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>إلا أن رد الفعل الغربي المحدود نسبيّاً، المنحصر في العقوبات الاقتصادية، لم يأت فقط مخيباً لآمال أوكرانيا، بل جاء أيضاً مثيراً لشكوك الدول الأوروبية الأخرى، التي تدرك جيداً أن عدم التدخل الغربي المأمول يأتي في إطار إدراك القوى العسكرية الغربية الكبرى (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) أن الضربة الروسية لأوكرانيا لا تهدد أيّاً من هذه الدول مباشرةً. ومن ثم، تنتفي الحاجة إلى تحمل نتائج حرب مباشرة مع روسيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">توجهات مثارة</span></strong></p>



<p>من هنا، بدأت مسألة استقلالية السياسة الدفاعية الأوروبية تثار؛ وذلك بما تحمله من إعادة تعريف لأدوار الدول داخل الاتحاد الأوروبي، وكذلك علاقات دوله بالولايات المتحدة الأمريكية في إطار حلف الناتو. وفي هذا الإطار، يمكن استعراض أهم الاتجاهات المحتملة لمستقبل السياسات الدفاعية الأوروبية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وذلك على النحو التالي:</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– إعادة النظر في الإطار التشريعي الحاكم لسياسات الأمن الأوروبية: </strong>وفقاً لاتفاقية لشبونة لعام 2007 التي تحدد ملامح سياسة الأمن والدفاع المشترك لدول الاتحاد الأوروبي؛ فإن أي قرار يتم اتخاذه في إطار هذه السياسة –دون استثناء– يجب أن يعتمد بالإجماع في كل من مجلس الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي؛ ما يقيد قدرة الاتحاد على التحرك بفاعلية في إطار هذه السياسة، ناهيك أن وضع القرارات المتخذة موضع التنفيذ يخضع للإرادة الحرة للدول الأعضاء، وما يربطها من اتفاقيات أخرى بما يحفظ سيادتها الكاملة في هذا المجال. لذلك، من المرتقب مناقشة الوضع التشريعي الحالي لسياسة الأمن والدفاع المشترك في أروقة الاتحاد الأوروبي، خاصةً أن بعض الأصوات بدأت ترتفع في الدول الأوروبية المتاخمة لروسيا جغرافيّاً (منها ليتوانيا وإستونيا) بأن الإطار التشريعي الحالي الحاكم لسياسات الأمن والدفاع لا يساعد على ضمان أمن الدول الأوروبية، سواء في إطار الاتحاد الأوروبي، أو في إطار تنسيق الأدوار العملياتية مع حلف الناتو؛ ما يؤثر سلباً على قدرة الحلف على التدخل في الوقت المناسب.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– مطالب بإعادة تسليح الجيش الألماني للمرة الأولى منذ الحرب العالمية:</strong> أثارت تصريحات الجنرال ألفونس مايس قائد القوات البرية الألمانية، بشأن محدودية إمكانات القوات الألمانية للقيام بأي أدوار فعلية في الأزمة الأوكرانية؛ موجة من التساؤلات حول نية ألمانيا المستقبلية لإعادة تسليح نفسها وتوسيع القدرة العسكرية لجيشها (المُقلَّصة منذ الحرب العالمية الثانية). هذا، وإن كانت هذه الدعاوى تهدف إلى منح ألمانيا –أو أوروبا بوجه عام– نوعاً من الاستقلالية النسبية عن المظلة الدفاعية الأمريكية؛ حتى لا تكون رهينة حسابات واشنطن الاستراتيجية، إلا أن من المؤكد أن مثل هذا الأمر –إن حدث أو تم تداوله بصورة واقعية– لن يتم إلا برضا وتنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية والحلفاء الغربيين الآخرين؛ ما يجعل احتمالية حدوث هذا الأمر ضئيلة في الوقت الراهن. تجدر الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من القوات البرية الأمريكية المتمركزة في أوروبا التي تُقدَّر بنحو 90 ألف جندي، تتخذ من ألمانيا قاعدة لها، وهو ما يدلل على نظرة واشنطن إلى نفسها باعتبارها الضامن الرئيسي للأمن القومي لألمانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– البحث عن إطار استراتيجي لتحقيق الاستقلالية الدفاعية:</strong> لن تشهد الأيام والأشهر المقبلة مراجعات فكرية أو محاولات على استحياء لإثارة مسألة الاستقلالية الدفاعية الأوروبية عن واشنطن فحسب، لكنها قد تشهد أيضاً حراكاً سياسيّاً داخليّاً على مستوى صناع القرار الأوروبيين؛ وذلك من منطلق أن زيادة التسليح في حد ذاته لن يكون رادعاً لأي عمل عدائي محتمل من روسيا، لكنه يستلزم أيضاً وجود توجه سياسي استراتيجي عام بإعادة سياسة "موازين القوى العسكرية" إلى السطح. ويستوجب ذلك استعداد الدول الأوروبية لتحمل فاتورة سباق تسلح جديد في ظل التفوق الكمي والنوعي الروسي، وهو ما قد يفضي بدوره إلى مزيد من التعقيدات المرتبطة بتحديد الآلية التي ستتحمل بها الدول هذه الفاتورة في إطار الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يجعل أكثر الدول مساهمةً في ميزانية الاتحاد (ألمانيا وفرنسا)، محجمة عن تحمل أي تكاليف إضافية في ظل التحديات الاقتصادية الراهنة المرتبطة بأزمة الطاقة وجائحة كورونا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– الاهتمام بالعوامل النفسية في إطار السياسة الدفاعية الأوروبية: </strong>حفَّز النهج الروسي في التمهيد لضربته العسكرية، الدول الأوروبية على التساؤل حول مدى اهتمام السياسة الدفاعية المشتركة بالعوامل النفسية وأساليب التمهيد للحروب الفعلية. فقد أصدر مركز العمليات الخارجية للاتحاد الأوروبي تقريراً، في يناير 2022 –أي قبل الضربة العسكرية بثلاثة أسابيع– يشير إلى أن الكرملين يكثف معلوماته المغلوطة حول أوكرانيا، بهدف خلق انطباع مضلل عن الحصار الروسي، واصفاً أوكرانيا بسخرية بأنها دمية في يد الغرب الذي يدفع بها في حرب غير معلوم أمدها. كما وصف التقرير بأن مثل هذه الأخبار والشائعات كان من شأنها أن تزرع الشكوك لدى الأوكرانيين أنفسهم حول مدى قدرة الحكومة في كييف وحلفائها على التصدي لأي ضربة عسكرية محتملة؛ ما أفقدهم الثقة بقيادتهم السياسية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>من هنا، خلص التقرير إلى أهمية وضع العوامل النفسية في حسبان السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، التي اهتمت بتفصيل الجانب العملياتي دون الخوض في مثل هذه المسائل الحرجة؛ وذلك حتى قبل وقوع الضربة العسكرية الروسية؛ ما يزيد احتماليات إثارة هذه الموضوعات على السطح في اجتماعات مجلس الاتحاد الأوروبي في أقرب فرصة ممكنة. لذلك، بجانب الأصوات المنادية بـ"سياسة دفاع مشترك أكثر فاعليةً"، انتشرت مطالب في الأوساط الثقافية ببلورة سياسة أكثر "شمولية" قبل النظر في إجراءات تفعيل السياسة الحالية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– الإسراع في وتيرة دعم منظومة الأمن السيبراني في أوروبا: </strong>بعد تعرض أوكرانيا لموجة من الهجمات السيبرانية الروسية التي استهدفت البنية التحتية الحرجة لقطاعات الدولة، نشر مجلس الاتحاد الأوروبي بياناً يدعم فيه الحكومة والشعب الأوكرانيين ضد هذا الاعتداء السيبراني، كما أشار البيان إلى أن الحوار الأوروبي الأوكراني في مجال الأمن السيبراني EU–Ukraine Cyber Dialogue يُشكِّل أحد الدعائم الأوروبية للمنظومة الأمنية والدفاعية في أوكرانيا، لكن بعد الضربة العسكرية، وبعدما أثبتت النظم الدفاعية الأوكرانية عدم كفاءة كبيرة في التصدي للهجمات الأكثر خطورة، بدأت بعض الدول الأوروبية الرائدة في هذا المجال (فرنسا وإستونيا) تدفع بضرورة تحقيق تقدم متسارع على المستوى الأوروبي فيما يتعلق بتقوية الدفاعات السيبرانية، خاصةً أن بعض القطاعات الاقتصادية والأنشطة المصرفية ترتبط فيما بينها بالكامل على مستوى القارة، وهو ما يجعل الثغرات التي قد توجد في بعض الدول أكثر خطورةً على المنظومة بأكملها؛ لذلك فمن المؤكد أن أي مسعى مستقبلي من شأنه أن يعيد تقييم السياسة الدفاعية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي، سيضع مسألة الأمن السيبراني الجماعي على رأس أولوياته.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>6– احتمالية صعود توجهات أوروبية مضادة للاستقلالية الدفاعية:</strong> على العكس مما يتوقعه البعض من أن كافة الدول الأوروبية ستحاول بحث سبل إيجاد قدر من الاستقلالية عن المظلة الدفاعية الأمريكية، فإن من المتوقع أيضاً أن تبحث دول أخرى عن الانغماس أكثر في الاعتماد على الولايات المتحدة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، طلبت كوسوفو من الولايات المتحدة رسمياً، يوم 27 فبراير 2022، أن تنشئ الأخيرة قاعدة عسكرية أمريكية مستديمة فيها، وأن تساعدها في الاندماج أكبر في منظومة الناتو؛ وذلك عقب الضربة الروسية لأوكرانيا. وهذا الأمر يعقد مسألة توقع اتجاه أوروبا ككتلة واحدة نحو مزيد من الاستقلالية الأمنية والدفاعية عن الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً في ظل وجود عدد كبير من الدول الأوروبية غير مُصنَّف عسكريّاً من الأساس، وهي الدول التي تدرك جيداً أن خيار الاستقلالية الدفاعية الأوروبية عن الولايات المتحدة لن يكون قابلاً للتنفيذ بالنسبة إليها بصورة عملية؛ ما ينبئ بسياسة دفاعية أوروبية أقل تناسقاً في المستقبل، وربما أقل "جماعيةً" أيضاً.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">معارضة أوروبية</span></strong></p>



<p>وختاماً، فإنه رغم صعود مسألة استقلالية السياسة الدفاعية الأوروبية عن الولايات المتحدة على السطح، فإن مجموعة من الصعوبات والتحديات العملية قد تحول دون تناولها بجدية، ولو على المستوى النظري. وقد بيَّنت العوامل السالفة الذكر أن عدم تناسق القوى الاقتصادية والعسكرية للدول أعضاء الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، هو إحدى الضمانات الأساسية التي تكفل للولايات المتحدة اعتمادية مستمرة من معظم هذه الدول على قدراتها العسكرية، خاصةً أن أكبر القوى العسكرية في أوروبا (فرنسا وبريطانيا) تعتمد هي الأخرى على الولايات المتحدة على العديد من الأصعدة العملياتية والتمويلية. وبالإضافة لما تقدم، فإن النهج الروسي الصارم المتبع في الأزمة الأوكرانية، ينبئ بتعزيز هذه السياسة المشتركة في عدد من المجالات؛ أهمها العمليات النفسية والأمن السيبراني، وهي مجالات يمكن للولايات المتحدة تقديم مزيد من الدعم فيها للدول الأوروبية، مضيفةً قدراً من الاعتمادية المتبادلة في المستقبل المنظور.</p>

      

ما تأثير الحرب الأوكرانية على مستقبل السياسات الدفاعية الأوروبية؟