عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تُمثِّل منطقتا البحر المتوسط والشرق الأوسط أهمية خاصةً في السياسة الدولية، خاصةً في ظل أهميتها الجيوسياسية، وارتباطاتها ارتباطاً مباشراً بالتفاعلات الإقليمية والدولية، لا سيما في ظل اهتمام القوى الدولية البارزة بها، ومساعيها المستمرة إلى تعزيز نفوذها في مواجهة الخصوم في البحر المتوسط والشرق الأوسط. وفي ضوء هذا نشرت "مؤسسة البحر الأبيض المتوسط للدراسات الاستراتيجية" تقريراً في الخامس من مايو 2022، بعنوان "الأطلس الاستراتيجي للبحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط"؛ إذ يستعرض التقرير الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وتفاعلات القوى الإقليمية والدولية فيها، علاوةً على طرح أبرز السيناريوهات المتوقعة لبعض الصراعات التي تشهدها تلك المنطقة.

أهمية استراتيجية

تناول التقرير أبرز محددات الأهمية الاستراتيجية والتحديات القائمة بمنطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط في السياسات العالمية، خلال عام 2022؛ وذلك على النحو الآتي:

1– مركزية الإقليم في الطرق المفصلية للتجارة العالمية: تُعتبَر منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط مفترق طرق للمنافسات التجارية العالمية، لا سيما أن نحو 90% من التجارة العالمية – بما يقرب من 12 مليار طن – تُنقَل بالطرق البحرية. وتُعَد المنطقة حلقة وصل لأربعة محاور نقل بحرية اقتصادية عالمية؛ هي: آسيا، وأوروبا، والولايات المتحدة وشمال شرق خليج المكسيك، والخليج العربي. وهذه المحاور الرئيسية تُقيِّدها 4 مضائق بحرية تُعَد منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط موطناً لها؛ هي: مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس، ومضيق جبل طارق، بجانب تماسِّ المنطقة مع الممر الجانبي حول إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح.

2– ممر رئيسي لشبكة الكابلات البحرية (عصب الإنترنت): تمثل الكابلات البحرية العنصر المادي للفضاء السيبراني؛ إذ يجري نقل أكثر من 95% من حركة المرور على الإنترنت عن طريق خطوط الألياف البصرية الموضوعة عليها، وهي خطوط تعتمد عليها الاقتصادات الدولية، والتدفقات المالية العالمية، والحياة اليومية للناس في جميع أنحاء العالم. وتُحيط بتلك الكابلات البحرية لشبكة الإنترنت، مخاطرُ عدة؛ أبرزها عمليات الاستخبارات، والاختراق، واحتمالية التعرُّض للتخريب، سواء بتعمُّدٍ أو عن طريق حركة الغواصات الضخمة.

3– تراجع المنطقة في سياسات واشنطن لصالح الهندوباسيفيك: بحسب التقرير، لم تَعُد منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط الآن أكثر من ممر عبور يسمح بإعادة الانتشار السريع للقوات الأمريكية في المحيط الهندي، فضلاً عن منح الولايات المتحدة القدرة اللازمة لإغلاق ممرات الطاقة اللازمة للصين؛ حيث شرعت الولايات المتحدة في تحديث قواعدها العسكرية في المنطقة للتعامل مع إعادة الانتشار السريع هناك إذا لزم الأمر. وفي هذا الإطار، تراجعت منطقتا البحر المتوسط والشرق الأوسط في السياسات الأمريكية لصالح منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ من أجل مواجهة المنافسة الصينية بدرجة أكثر فاعليةً.

4– إقليم رئيسي لموارد الطاقة الصينية ومبادرة الحزام والطريق: وفقاً للتقرير، يمثل الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط خزان الطاقة الرئيسي للصين؛ إذ يوفر نصف استهلاكها من النفط، كما أن المنطقة مفترق طرق استراتيجي يسمح لها بمتابعة توسُّعها الاقتصادي والسياسي نحو أوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولتأمين إمداداتها من الهيدروكربونات، سيتعين على الصين – بلا شك – أن تصبح أكثر انخراطاً في الشرق الأوسط، وفقاً للتقرير. وعلى المستوى الجيوسياسي، تهدف الاستراتيجية الكبرى للصين إلى إبقاء منافسيها في مأزق وعزلهم، مع تأمين إمداداتها من الطاقة، والمواد الخام والموارد الاستراتيجية. وفي ضوء ذلك، فإن مفهوم بكين لطرق الحرير البرية والبحرية الجديدة، يقوم على اختراق أسواق آسيا الوسطى والشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا الشرقية، في الوقت الذي تخنق فيه تدريجيّاً منافستها الإقليمية (الهند).

5– تنافس صيني أمريكي على رقعة المتوسط والشرق الأوسط: بحسب التقرير، فإن منطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط تحوَّلت بدرجة متزايدة إلى رقعة صراعية بين الصينيين والأمريكيين، بعد أن كانت اللعبة تدور – لعقود – بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق خلال حقبة الحرب الباردة. ومع ذلك أشار التقرير إلى أهمية المنطقة لدى فاعلين آخرين؛ دوليين وإقليميين، أبرزهم روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل.

6– تأثيرات سلبية للصراعات بحافة المتوسط والشرق الأوسط: مع دخولنا عام 2022، تستمر عدة صراعات متفاوتة الشدة في التأثير على استقرار حافة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط. وبحسب التقرير، تظل الحروب الدائرة في اليمن وسوريا وليبيا من أهم الصراعات التي تُلقي بظلالها السلبية عن أمن المنطق، لا سيما مع وجود أطراف دولية مؤثرة بتلك الصراعات، ووجود وحدات عسكرية أجنبية. ووفقاً للتقرير فإن الصراع في اليمن – الذي يبدو اليوم الأكثر استعصاءً على الحل – هو نفسه متأثر بالصراع والتوترات في الصومال.

كذلك الحال في سوريا وليبيا اللتين ترى بعض الأطراف أن استمرار الصراعات فيهما مصلحة يجب الحفاظ عليها؛ هذا إضافة إلى توترات أخرى أقل حدةً، مثل الصحراء المغربية، والتوترات المغاربية بين الجزائر والمغرب وموريتانيا، وجيب سبتة ومليلية على مضيق جبل طارق، وكذلك الحرب الأهلية الكامنة في العراق منذ نحو عقدين، إضافة إلى التوتر السعودي الإيراني، وصراعات الغاز بإقليم شرق المتوسط.

7– تفاقم مخاطر انعدام الأمن الغذائي والإجهاد المائي بالمنطقة: أشار التقرير إلى أن مفهوم الأمن الغذائي – الذي يشمل الوصول إلى المياه العذبة – قد رسَّخ مكانته بوصفه قضيةً حيويةً لسكان حافة البحر المتوسط والشرق الأوسط على مر العقود. إذ يتأثر الإقليم على نحو مختلف بالنمو السكاني والاحتباس الحراري. وفي حين لا تعاني الدول الأوروبية المُطلَّة على البحر المتوسط من مشكلة انعدام الأمن الغذائي بدرجة كبيرة، والإجهاد المائي إلى حد ما، فإن غالبية دول الشرق الأوسط وجنوب المتوسط تعاني من تأثير تلك المعضلتَين أو إحداهما على نطاق واسع. وقد تزايدت مشكلة الأمن الغذائي بالمنطقة على وقع الحرب الروسية الأوكرانية، كما تزايدت مخاطر اندلاع حروب المياه في المنطقة، مع تفاقم التوترات المائية بين تركيا من جهة وسوريا والعراق من جهة أخرى، وبين إسرائيل وسوريا والأردن للسيطرة على مياه نهر الأردن.

8– تزايد حدة التوترات بإقليم شرق البحر المتوسط: وفقاً للتقرير، باتت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بؤرة للعديد من التوترات؛ أبرزها التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، والتوترات الإقليمية الآخذة في التدهور بين إسرائيل وإيران عبر وكيلها العسكري الإقليمي المتمثل في حزب الله اللبناني، كذلك التوترات والمناوشات المنتظمة بين تركيا واليونان، في حين تظل الجمهورية التركية لشمال قبرص المُعلَنة من جانب واحد، التي يمكن ضمها في غضون ساعات، ورقة رابحة للرئيس أردوغان؛ إذ من خلالها سيجبر الاتحاد الأوروبي على الرد أو تقويض مصداقيته بدرجة خطيرة. فضلاً عن التوترات ذات الطبيعة الاقتصادية والسياسية وربما الثقافية للسيطرة علن ثروات الغاز شرقَ المتوسط، بين تركيا وبعض الدول مثل اليونان وإسرائيل وقبرص، وكذلك ليبيا، مع تورط محتمل لإيطاليا وفرنسا في تلك الأزمة.

9– انتشار الصواريخ الباليستية وأنظمة الدفاع الصاروخي (BMD): بحسب التقرير، تنبع مشكلة الصواريخ الباليستية في منطقة البحر الأبيض المتوسط في الأساس من خطر الصواريخ النووية الروسية العابرة للقارات، أما معظم مسارات الصواريخ الموجهة للأراضي الأمريكية فتقع في الشمال، وتقوم أنظمة الدفاع الصاروخي الباليستي (BMD) الموجودة مسبقاً في رومانيا وتركيا وإسرائيل، وفرقاطات AEGIS المتمركزة في إسبانيا، التي يمكن نشرها في البحر الأسود؛ بأداء وظيفة حماية القوات الأمريكية في أوروبا، جنباً إلى جنب مع حلفاء الناتو من الضربات الصاروخية الروسية المتوسطة المدى، في حين زاد تطوير إيران قدرات صاروخ باليستي متوسط المدى من أهمية هذه الأنظمة في حماية القوات الأمريكية المتمركزة بالمنطقة وكذلك حماية إسرائيل وحلفاء واشنطن الآخرين. ويمكن أن يشجع التصاعد العام في التوترات، وتصوُّر انخراط الولايات المتحدة بدرجة أقل (عدم وجود رد أمريكي على هجمات الطائرات بدون طيار التي نُسبت إلى إيران في السعودية عام 2019)، موجات صادمة عبر المنطقة تتمحور حول زيادة الانتشار الإقليمي لتلك المضادات في المستقبل.

10– انقسام المنطقة إلى محورَين جيوسياسيَّين متنافسَين: بحسب التقرير، ينقسم الشرق الأوسط إلى محورَين جيوسياسيَّين في احتكاك على طول خط الصدع المتعرج من قبرص إلى مضيق هرمز عبر بلاد الشام والخليج العربي. ويتحكم في المحور الشمالي كل من إيران وروسيا، في حين تهيمن الولايات المتحدة على المحور الجنوبي، بالتعاون مع بعض دول المنطقة. وقد زاد تدخل روسيا في المنطقة، مع تزايد العداء بين طهران وواشنطن والنكسات الأمريكية في العراق وسوريا، من حدة التنافس بين المحورَين في الإقليم. وذهب التقرير إلى أن التوترات الإقليمية ربما تهم الأمريكيين والروس باعتبارها مبرراً لوجودهم ودورهم بصفتهم رعاة وموردي أسلحة ومقدمين للدعم في مجلس الأمن الدولي. ومع ذلك، تدرك كلتا القوتين أنه يجب ألا تتصاعد التوترات إلى الحد الذي تخاطران فيه بالتسبُّب في اندلاع حريق من شأنه أن يلحق أضراراً كبيرة بهما وبنفوذهما الإقليمي. أما الصين فلا تزال تتربص في الوقت الحالي، وتستثمر بكثافة حيثما كان ذلك ممكناً.

استراتيجيات متباينة

يحلل التقريرُ الاستراتيجياتِ والأهدافَ العسكرية لدول منطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط، وكذلك أبرز الفاعلين الدوليين، خلال عام 2022، وهو ما يمكن إلقاء الضوء عليه في النقاط التالية:

1– مُقارَبة تعاونية من جانب دول الخليج العربي: وفق التقرير فإن دول الخليج العربي تتبنى مقاربات تعاونية إزاء منطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط؛ وذلك بتوظيف القوة من أجل تعزيز التعاون، مع الحفاظ على علاقات متميزة بدول المنطقة بدرجة كبيرة. وعلى سبيل المثال، أوضح التقرير أن الأهداف الاستراتيجية لعمان تنطلق من الحفاظ على الحياد الاستراتيجي وتخفيف التوترات الإقليمية من خلال الاضطلاع بدور الوساطة، مع العمل على تنويع الاقتصاد والتركيز على القوى العاملة العمانية لتقليل العمالة الوافدة، بجانب الحفاظ على التوازن بين الولايات المتحدة والصين وتحقيق أقصى استفادة من قدراتهما الاستثمارية.

2– توظيف إيران الردع التقليدي غير المتكافئ في المنطقة: أشار التقرير إلى أن النظام الإيراني يسعى إلى دفع الاقتصاد إلى الأمام من خلال التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة حول الملف النووي وإزالة الجزء الأكبر من العقوبات الأمريكية، مع التحرك نحو جذب مزيد من الاستثمارات الآسيوية دون الخضوع للسيطرة الصينية. وعلى المستوى الإقليمي تسعى طهران إلى طرد الولايات المتحدة من العراق وتقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، مع التفاوض بأسلوب ثنائيّاً مع دول الجوار. وعلى المستوى الداخلي، يهدف النظام إلى إلغاء أو تحييد المعارضة بما يضمن استمرار سيطرة رجال الدين على المؤسسات لأطول فترة ممكنة. ويجادل التقرير أن إيران رغم أنها هشة للغاية داخليّاً، تمكنت من تعزيز نفوذها الخارجي، وباتت لاعباً رئيسيّاً، من خلال الردع التقليدي غير المتكافئ القائم على النفوذ الإقليمي، المتمثل في شبكة من الوكلاء في بعض الدول، وترسانة من الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات.

3– محاولات متباينة لاحتواء الصراعات في المنطقة: أوضح التقرير أن بعض الدول تسعى إلى محاولة تأمين الوضع الداخلي. وعلى سبيل المثال، تتمثل استراتيجية تونس – بحسب التقرير – في ضمان أمن وسيادة البلاد في سياق داخلي مُعقَّد، وفي بيئة إقليمية غير مستقرة، ومنع عودة الجهاديين التونسيين من الخارج، وفيما يتعلق بلبنان، ذهب التقرير إلى أن استراتيجية لبنان تقوم على ضمان بقاء النظام السياسي غير القادر على الإصلاح. ووفقاً للتقرير فإن حزب الله – وهو جيش سري حقيقي – يتمتع بقدرات دفاعية ضد إسرائيل والجماعات المسلحة الخارجية على السواء؛ لذلك من غير المتوقع أن يلقي حزب الله سلاحه؛ لأن هذا الحزب يستمد شرعيته من فعل "المقاومة".

أما عن سوريا، فقد أوضح التقرير أنه بعد أكثر من 10 سنوات من الحرب يبدو أن نظام بشار الأسد في طريقه للفوز بالصراع؛ حيث تمكنت قواته من الحفاظ على التوازن بين حلفائها، وباتت تسيطر الآن على معظم الأراضي السورية، وفيما يتعلق باليمن، فإن الهدف الأبرز هو وضع حد للحرب الأهلية القائمة منذ عام 2014، والتوصُّل إلى حل وسط ربما عبر دستور فيدرالي جديد مع الحفاظ على وحدة اليمن؛ لمنع الانقسام مرة أخرى إلى دولتَيْن شمالية وجنوبية، جنباً إلى جنب مع طرد وتحييد الجماعات الجهادية المسلحة التي تسيطر على جزء استراتيجي من اليمن.

فيما أوضح التقرير أن العراق يسعى إلى إعادة بناء الوحدة الوطنية مع تبني موقف متوازن مع اللاعبين الدوليين وعدم الانجرار إلى أي صراع إقليمي، كما تهدف الحكومة إلى نزع سلاح الميليشيات ودمجها جزئيّاً في الجيش النظامي، في ظل محاولات توحيد الجيش. ووفق التقرير فإن مستقبل العراق سيعتمد على التحالفات الجيوسياسية الجارية في المنطقة، خاصةً ما يتعلق بقدرة واشنطن والرياض على التوصل إلى اتفاق مع إيران؛ حيث إن فشل هذه المفاوضات يمكن أن يعزز موقع العراق باعتباره ساحة حرب بالوكالة مرة أخرى.

4– مواجهة الولايات المتحدة معضلات متزامنة في الشرق الأوسط: أوضح التقرير أن الولايات المتحدة تواجه عدداً من المعضلات في منطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط، لا سيما ما يتعلَّق بتنسيق انتشارها العسكري بجانب كيفية احتواء الصين وروسيا وإيران بأسلوب فعَّال في الوقت نفسه، وأي خصم له الأولوية في المواجهة؛ إذ يجد القادة الأمريكيون صعوبة في تحديد استراتيجية إقليمية متماسكة في مواجهة هذه المعضلات برغم القوة العسكرية الأمريكية. ويجادل التقرير أنه على الرغم من تخفيض واشنطن وجودها العسكري في المنطقة، فإن من الخطأ القول بأن الولايات المتحدة تخلَّت عن الشرق الأوسط.

5– إدراك الصين صعوبة مجاراة الدور العسكري الأمريكي بالمنطقة: بحسب التقرير فإن مصالح الصين في المنطقة ترتبط في المقام الأول بملفَّي الاقتصاد والطاقة. أما على المستوى العسكري، فإن القيادة الصينية تدرك أنها ليست في وضع يمكنها من تحدي الولايات المتحدة في المنطقة حاليّاً، ولا يمكنها أن تحل محل واشنطن ضامناً أمنيّاً لبعض الدول العربي؛ لذلك تتمثل استراتيجية بكين في تقوية نفوذها على الشاطئ الشمالي للخليج العربي وعلى طول مضيق هرمز، مع التركيز بوجه خاص على إيران والإمارات.

6– مساعي روسيا إلى توظيف الأزمات في تعزيز نفوذها في المنطقة: وفق التقرير، عادت روسيا إلى المنطقة في عام 2015 لإنقاذ النظام السوري؛ وذلك بعد نحو 25 عاماً من غياب الكرملين عن حافة البحر المتوسط؛ إذ استفادت موسكو من فك الارتباط النسبي الأمريكي بالمنطقة والسياق الدولي المُواتي. ويتوقَّع التقرير أن تتجه موسكو إلى طرد إيران من سوريا بالتوافق مع تركيا وإسرائيل والنظام السوري، بيد أن هناك قيوداً تتعلق بذلك متمثلة في الميزانية والتجهيزات العسكرية، علاوةً على تداعيات الحرب الأوكرانية.

7– محاولة فرنسا خفض التصعيد مع الخصوم في المنطقة: يصف التقرير فرنسا بأنها لاعب عالمي يتجه نحو البحر المتوسط والشرق الأوسط وإفريقيا، وله مناطق على الجبهات البحرية الثلاث؛ الأطلسي، والهندي، والهادئ، كما أن فرنسا عضو دائم في مجلس الأمن، وعلى عكس الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن باريس ترفض تبني موقف عدائي تجاه روسيا والصين وإيران. ومن جانب آخر، أوضح التقرير أن القوات المسلحة الفرنسية تتمتع بالمصداقية، ومعترف بها على أنها لا مثيل لها في أوروبا حتى لو كانت تعاني بشأن بعض الخدمات اللوجستية والقيود المفروضة على الميزانية.

8– تعامل المملكة المتحدة مع المنطقة كنافذة فرص متاحة: تنظر المملكة المتحدة، بحسب التقرير، إلى منطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط من خلال ثلاثة مسارات: باعتبارها طريقاً بحرياً وتجارياً يجب حمايته، وكمجال للفرص من أجل الوصول إلى أسواق جديدة، وكمناطق أزمات تسمح لها بممارسة المسؤوليات المرتبطة بكونها عضواً دائماً في مجلس الأمن، وحليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، وبما يضع المملكة المتحدة في خط المواجهة ضد الصين وروسيا، وهو ما يفسر قرارها الأخير زيادة ترسانتها النووية.

سيناريوهات مستقبلية

أفرد التقرير بعض السيناريوهات المستقبلية لعدد من الأزمات في المنطقة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو الآتي:

1– توقُّع تكرر الاشتباكات الحدودية بين الجزائر والمغرب: بحسب التقرير فإن هناك عدة أسباب يمكن أن تدفع نحو مواجهة مسلحة بين الجزائر والمغرب، خاصةً في ظل التنافس التاريخي بين الدولتين؛ إذ يمثل النزاع المتعلق بالصحراء الغربية لمما يقرب من أربعة عقود واحداً من أبرز المؤشرات على ذلك، وعقب تصاعد التوترات بين البلدين منذ عام 2021، فإن أي مواجهة مسلحة محتملة سوف تدفع إسرائيل إلى تقديم دعم عسكري سري للمغرب، كما يمكن تصور تقديم دعم أمريكي محدود للمملكة المغربية، بالأخص في مجال الاستخبارات والمسيرات، لا سيما إذا وقفت روسيا أو إيران بجانب الجزائر؛ إذ يمكن للأخيرة أن تستفيد من هذا الدعم المتحفظ.

ويتوقع التقرير أن تتفوق المغرب من حيث القدرات السيبرانية، في حين تتفوق الجزائر في القدرات الاستخباراتية والمراقبة الأرضية، لا سيما من حيث الكم، كما يمكن أن توظف الجزائر جبهة البوليساريو ضد المغرب، ومن جانب آخر، تتمتع الجزائر بقوة بحرية تمكنها من فرض حظر بحري على المغرب. ويرجح التقرير تكرار الاشتباكات الحدودية بين الجزائر والمغرب.

2– تفاقم صراع أنقرة واليونان وقبرص بمبادرة تركية: بحسب التقرير، فإنه من المحتمل أن تتجه الحكومة التركية إلى طرح مبادرة لحل الخلافات مع اليونان وقبرص، وهذه القدرة على المبادرة من جانب الحكومة التركية، جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة القوية المدعومة برأي عام قومي؛ من شأنها أن تمنح تركيا هيمنة لا يمكن إنكارها، وإمكانية خلق أمر واقع يصعب تغييره ما لم تتدخل الولايات المتحدة أو روسيا مباشَرةً. ووفق التقرير، فإن أفضل دفاع لليونانيين والقبارصة هو الردع الوقائي لأي عدوان تركي، من خلال تعزيز نظامهم الدفاعي على أراضيهم والجزر التي يسيطرون عليها.

3– استبعاد مواجهة كبرى بين إيران وإسرائيل إلا بشروط: توقع التقرير عدم حدوث مواجهة كبرى مفتوحة بين إسرائيل وإيران ما لم يكن هناك استفزاز كبير من جانب إحداهما، وبدون دعم أمريكي، سيكون للضربات الإسرائيلية في إيران تأثير محدود على أي حال. ووفق التقرير، فمن المحتمل أن تبدأ أي مواجهة مسلحة كبرى بين إسرائيل وإيران بضربات استباقية إسرائيلية ضد برنامج إيران النووي إذا فشلت المفاوضات النووية، أو رداً على تجربة نووية إيرانية أو استفزاز إيراني متعمد، كما يمكن أن تنتج المواجهة عن تصعيد التوترات بين إسرائيل وحزب الله في ظل انهيار الدولة اللبنانية. في حال حدوث هذه المواجهة، فمن المحتمل أن يحاول النظام السوري والجيش اللبناني الابتعاد عن الطريق من أجل عدم خسارة كل شيء. وبحسب التقرير، ستنفذ إيران ضربات صاروخية انتقامية واسعة النطاق من أراضيها، وستشن من لبنان وسوريا ضربات ضد السكان الإسرائيليين مع تنشيط وكلائها وميليشياتها. وما لم تتدخل الولايات المتحدة مباشَرةً، فمن المرجح أن روسيا لن تتدخل، وسوف تسعى إلى الاستفادة من ذلك لتعزيز نفوذها في المنطقة.

وختاماً، يجادل التقرير أن إسرائيل وحدها ليست في وضع يُمكِّنها من تحدي التفوق البحري الإيراني في الخليج العربي أو المنطقة البحرية التي يسهل الوصول إليها في خليج عمان، فيما تملك إسرائيل تفوقاً جويّاً كاملاً على لبنان وسوريا، كما تحتفظ بالقدرة على ضرب مواقع حزب الله وحماس بدرجة كبيرة، وبالتأكيد فإن تل أبيب لديها تفوق جوي في مواجهة الإيرانيين.

المصدر:

Strategic Atlas of the Mediterranean and the Middle East, Fondation Méditerranéenne d’Etudes Stratégiques, Toulon, May 5, 2022, Accessible at: https://fmes–france.org/strategic–atlas–of–the–mediterranean–and–the–middle–east/

ما مستقبل الاستقرار في منطقتَي البحر المتوسط والشرق الأوسط؟