إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية


        
<p><strong>طرح التدخل الروسي في أوكرانيا عدة تساؤلات حول الموقف الصيني منه، ومدى انحيازه إلى روسيا مقابل الغرب، خاصةً في ظل العلاقات الاستراتيجية بين بكين وموسكو، ومحاولات الصين تقليل الاعتماد على الغرب. ويطرح الهجوم الروسي على أوكرانيا تساؤلات أيضاً حول قدرة الصين على استغلاله في مساعيها الرامية إلى تقليل الاعتماد على الدول الغربية، والرهان على روسيا بوصفها حليفاً استراتيجيّاً، وكيف يمكن أن يساهم الهجوم في بلورة موقف صيني محدد، وتكثيف سياساتها الاستقلالية، في المقابل، فإن ذلك يطرح بعض التحديات على الجانب الصيني خاصةً في ظل العقوبات المكثفة المفروضة ضد روسيا واعتبار بكين هي الشريك التجاري الأكبر لموسكو.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>وفي سياق متصل، فقد دعا البيت الأبيض، في 27 فبراير 2022، الصين إلى التنديد بالتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض "جين ساكي" إن "هذا ليس وقت الوقوف على الهامش"، وهو ما تزامن مع إعلان مسؤول في الإدارة الأمريكية أن الصين لم تساعد روسيا حتى الآن في تفادي العقوبات المالية المفروضة عليها. ومن جانب آخر، فضَّلت بكين الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن حول قرار يتعلق بإدانة الهجوم على أوكرانيا، برغم أن التوقعات كانت تشير إلى تبني الصين الموقف الروسي برفض القرار، وهو ما يعكس الترقُّب والتحسُّب الصيني لتطورات الحرب الأوكرانية وارتداداتها السلبية في المرحلة المقبلة.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">محددات واضحة</span></strong></p>



<p><strong>يمكن وصف الموقف الصيني من الحرب الأوكرانية، بأنه حياد حذر، وينطوي في ذات الوقت على دعم نسبي للموقف الروسي في مواجهة الغرب، في ظل إشارة بكين إلى ضرورة مراعاة المخاوف الأمنية الروسية. وينطلق الموقف الصيني من عدة محددات يمكن توضيحها على النحو التالي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تفهُّم المنطلقات الروسية نحو غزو أوكرانيا:</strong> امتنعت وزارة الخارجية الصينية عن توجيه انتقادات مباشرة لروسيا بسبب هجومها على أوكرانيا، في دعم ضمني لتحركات موسكو في مواجهة الغرب. كما تُبرز التغطية الإعلامية الصينية بعض الحجج الروسية للتقليل من خطر التدخل العسكري. وقد دأبت الصين خلال الفترة الماضية على إظهار دعمها لروسيا؛ ما يفسر اهتمام الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بزيارة بكين، في 4 فبراير 2022؛ لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية. وهي الزيارة التي أصدر خلالها الرئيس الروسي مع نظيره الصيني "شي جين بينج" بياناً مشتركاً أشار إلى قوة العلاقات بين البلدين على مدار 70 عاماً، مؤكداً أنه "لا مجالات محظورة للتعاون" بينهما. وقد ارتبط هذا الاهتمام من جانب بكين بإظهار الدعم لموسكو، برفضهما المشترك لمساعي الغرب إلى فرض معاييره الديمقراطية على الآخرين، فضلاً عن انضمام الصين إلى روسيا في معارضة التوسع المستمر لـ"حلف الناتو"، ومن ثم دعمها مطالب "بوتين" بإبقاء أوكرانيا خارج الحلف.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2–</strong> <strong>نمو متزايد في العلاقات الاقتصادية بين البلدين: </strong>تجمع الصين وروسيا علاقات اقتصادية مميزة تنامت على مدار أكثر من عقدين، وتزايدت إثر جولة سابقة من العقوبات الغربية التي تم توقيعها على روسيا في عام 2014 بعد ضمها شبه جزيرة القرم؛ فقد قفزت التجارة بين البلدين بنسبة 35% في عام 2021 إلى مستوى قياسي بلغ 147 مليار دولار. وقد أصبحت الصين أكبر سوق للصادرات الروسية بعد الاتحاد الأوروبي؛ حيث اشترت ما مقداره 79 مليار دولار منها في عام 2021، خاصةً النفط والغاز؛ ولذلك من المتوقع أن تمتنع الصين عن التصويت على أي قرارات للأمم المتحدة تدين روسيا، كما فعلت في عام 2014، وأن يدعو الدبلوماسيون الصينيون إلى إنهاء الأعمال العدائية من جميع الأطراف، كبديل عن تحميل روسيا المسؤولية منفردة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تقليص الاعتماد الروسي والصيني على الدولار: </strong>من العوامل الأخرى المحفزة لبكين على الاستمرار في علاقتها مع موسكو رغم امتعاض الغرب، أن أي عقوبات غربية مفروضة على روسيا من المحتمل أن يكون لها تأثيرات محدودة فقط على علاقتها الاقتصادية بالصين؛ إذ يمكن لبنوك التنمية في الصين إقراض الشركات الروسية دون تخوف من التعارض مع العقوبات المالية التي تستهدف الإقراض التجاري؛ حيث قلص البلدان باطراد اعتمادهما على الدولار لتسوية التجارة، كجزء من جهود روسيا لعزل نفسها عن تأثير العقوبات الأمريكية؛ وذلك فضلاً عن أن الصين قد ترى كذلك في تعليق خط أنابيب "نورد ستريم 2" بين روسيا وألمانيا فرصة للحصول على صفقة أفضل في المفاوضات بشأن بناء خط أنابيب من روسيا إلى الصين؛ لنقل الغاز من الحقول التي تُغذي أوروبا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– تحرُّر بكين من الاعتماد على التكنولوجيا الغربية: </strong>من الأسباب الأخرى التي تشجع الصين على إظهار تقارب مع موسكو رغم العقوبات الغربية المتوقعة، مساعيها القائمة على التحرر من الاعتماد على التكنولوجيا الغربية، في إطار ما يسميه الرئيس الصيني "التعزيز الذاتي" ضد ما تسميه حكومته "الخنق" الذي يمارسه الغرب على الوصول إلى التقنيات الحيوية. خاصةً أن خطة الصين الخمسية الرابعة عشرة –التي نُشرت في عام 2021 وتغطي السنوات حتى عام 2025– تجعل الاعتماد على الذات في العلوم والتكنولوجيا حجر الزاوية في السياسة الاقتصادية للصين.</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وتضخ الحكومة والشركات الصينية على السواء المليارات من أجل بلوغ هذا الهدف، حتى قفز الإنفاق العام والخاص على البحث والتطوير إلى رقم قياسي بلغ 2.8 تريليون يوان (440 مليار دولار) في عام 2021 وحده، وهو ما يعادل 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، مقابل 2% قبل خمس سنوات، ومقارنةً بنسبة 3% في الولايات المتحدة. وفي السياق نفسه، أعلنت "المؤسسة الدولية الصينية لتصنيع أشباه الموصلات (SMIC)" –وهي أكبر شركة لتصنيع الرقائق الإلكترونية في الصين– أنها ستستثمر نحو 5 مليارات دولار خلال عام 2022 في مصانع أشباه الموصلات الجديدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– تشتيت الانتباه الأمريكي عن الصين: </strong>ترى بكين أن الحرب الأوكرانية تشتيت ذو أثر إيجابي بالنسبة إليها، في ظل صرف الانتباه الأمريكي عن الصين كعدو أول، وكذلك في ظل ابتعاد واشنطن بأولوياتها نحو تحجيم العدوان الروسي، بدلاً من إضعاف النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والعودة إلى أوروبا والمحيط الأطلسي، وهو ما يخفف الضغط الاستراتيجي على الصين باعتبارها التهديد الأكبر للأمن القومي الأمريكي. ومن جانب آخر، فإن النهج الأمريكي أو الغربي إجمالاً في التعامل مع الموقف الروسي الحالي، مؤشر مهم بالنسبة إلى بكين في ظل أي تطلعات نحو التدخل العسكري في تايوان.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">حياد حذر</span></strong></p>



<p><strong>رغم العوامل المحفزة العديدة التي تدفع الصين إلى عدم تبني نهج تصعيدي تجاه موسكو، واتخاذ مواقف وسطية مقارنةً بالمواقف الغربية، فإن هناك عدداً من العقبات القائمة التي قد تحول دون تمكن بكين من المضي قدماً في هذا الاتجاه؛ منها:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تضرر صيني من العقوبات الغربية ضد موسكو:</strong> بالرغم من المحفزات الصينية لدعم روسيا، ومساعيها إلى الاستقلال التكنولوجي عن الغرب، فإن هناك شكوكًا واسعة في قدرتها على ذلك. وهو ما يظهر في التقييم الذي صدر عن "معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية (IISS)"، في 30 يناير 2022، الذي اعتبر أن الصين من المرجح أن تكون الخاسر الأكبر من الفصل التكنولوجي والاقتصادي الجاري بينها وبين الولايات المتحدة. وهو ما يرجع إلى افتقار الصين للسيطرة على أنظمة الحوسبة الأساسية، فضلاً عن تخلفها كثيراً عن الولايات المتحدة في عدد من المجالات المهمة، مثل أشباه الموصلات وأنظمة التشغيل والفضاء. ومن جانب آخر، فإن الصين هي أكبر شريك تجاري لروسيا، وتتمتع بعلاقات تجارية ومالية واسعة معها، ومن ثم، سوف تتأثر سلباً بالعقوبات الغربية والأمريكية المفروضة على موسكو.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– ارتباط الشركات الصينية بسلاسل التوريد العالمية:</strong> تواجه الصين صعوبة، خاصة في الاستقلال بنفسها عن سلاسل التوريد العالمية والمعقدة لأشباه الموصلات، التي تهيمن عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها. وكان ذلك سبباً في نجاح الغرب بالفعل في توقيع عقوبات تكنولوجية مؤثرة على الصين من قبل في عام 2018، عندما أوقفت إدارة "دونالد ترامب" مبيعات الأجهزة الحساسة التي تستخدم التكنولوجيا الأمريكية لاثنين من صانعي معدات الاتصالات الصينيين، وهما شركتا "ZTE" و"Huawei". ولتجنب حدوث أمر مشابه مرة أخرى، تنص الخطة الخمسية الصينية الأخيرة على أن بكين يجب أن تنتج 70% من الرقائق التي تستهلكها بحلول عام 2025، ارتفاعاً من أقل من 20% العام الماضي، وهو الأمر الذي لا يزال يواجه صعوبات عديدة، خاصةً مع عدم مواكبة الرقائق الصينية لنظيرتها الغربية إلى الآن.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– صعوبة إنشاء شبكة مدفوعات مستقلة:</strong> تتم معالجة الجزء الأكبر من تحويلات الأموال العالمية من خلال نظام "سويفت SWIFT" ونظام "CHIPS"؛ وذلك بالإضافة إلى الاستخدام الواسع النطاق للدولار في التمويل والتجارة الدولية؛ ما يمنح واشنطن القوة في النظام المالي العالمي، وهو ما يُحجِّم جهود الصين لإنشاء نظام موازٍ لمدفوعات "اليوان" المعروف باسم "CIPS". وقد عملت الصين على توسيع هذا النظام منذ عام 2015، بهدف تجنب أي عقوبات أمريكية محتملة بسبب سياسات بكين المقيدة للحريات في هونج كونج، أو لانتهاكاتها حقوق الإنسان في شينجيانج. غير أن فرص النجاح في الاستقلال بالنظام الصيني ضعيفة؛ حيث تكفي الإشارة إلى أنه مقارنةً بـ80 مؤسسة متصلة بنظام "CIPS"، فإن هناك نحو 11000 مؤسسة متصلة بنظام "SWIFT".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– عدم اعتبار علاقات موسكو وبكين علاقات تحالفية:</strong> لا يوجد توافق تام بين الصين وروسيا، بل هناك مساحات للتنافس بين البلدين، لا سيما في أوراسيا. وحتى إن كانت موسكو غير قادرة على مجاراة التوسع الاقتصادي للصين، لكنها تواصل استخدام العلاقات التاريخية والثقافية، والاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي، وعلاقاتها الأمنية لمحاولة التخفيف من نفوذ الصين، وهو ما قد لا تتسامح معه بكين لفترة طويلة. وحتى مع الموقف الصيني من الحرب الأوكرانية، فإن ذلك يكشف في الواقع الرؤى المتنافسة لبكين وموسكو بشأن مستقبل أوراسيا؛ حيث تعتبر الصين المنطقة القارية ممراً واسعاً لطرق التجارة التي تربط المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي، بينما يتحدى تأكيد روسيا لمجال نفوذها على طول حدودها الغربية هذا الرأي من خلال المخاطرة بصدع أكثر ديمومة بين موسكو وأوروبا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ومن جانب آخر، تعتمد خطوط السكك الحديدية والطرق الصينية المؤدية إلى أوروبا على العبور عبر روسيا، أو الدول الرئيسية في الخارج القريب منها، فيما أن الإجراءات الروسية والعقوبات الغربية قد تدفع بكين مرة أخرى إلى الاعتماد على الطرق البحرية التي لا تزال عرضة للقوة البحرية الأمريكية؛ وذلك ما يفسر رؤية الصين لروابطها القارية باعتبارها الطريق نحو قوتها العالمية، على أن يكون تأمين ذلك أولاً على الأرض، والانطلاق بعد ذلك للتوسع في البحار.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>وفي المجمل، فإن الموقف الصيني الذي يحمل قدراً من التوازن المرن، إزاء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، يعكس وجود تخوفات لدى بكين من التداعيات السلبية المحتملة لتلك الحرب على مصالحها، وهو ما حدا الصين إلى دعوة </strong><strong>كل الأطراف إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد المستمر للوضع، بل اتهمت الخارجية الصينية واشنطن بأنها تزيد الوضع سوءاً بإرسالها الأسلحة إلى أوكرانيا، وتضخيمها النطاق المحتمل للحرب؛ إذ تخشى بكين إمكانية توسُّع تلك الحرب أو استمرارها لفترة زمنية طويلة وبما يقترن بذلك من ارتدادات سلبية على الاقتصاد الصيني واحتمالية تأثر المصالح الصينية في مناطق مختلفة حول العالم. ومن جانب آخر، فإن تفاقم الوضع الإنساني في أوكرانيا في المدى المنظور قد يجبر بكين على تبني موقف أكثر حزماً تجاه موسكو من أجل عدم الإضرار بسُمعتها الدولية.</strong></p>

      

كيف تتفاعل الصين مع الحرب الروسية على أوكرانيا؟