عرض: أسماء الصفتي

بات سلاح العقوبات الاقتصادية سلاحاً رئيسياً تستخدمه الدول بعضها ضد بعض على أمل أن يساعد ذلك على تغيير موقف الدول المعاقَبة من قضايا أو مواقف معينة. وفي هذا الإطار، صدر عن مطبعة جامعة ييل في لندن مؤخراً، كتاب حمل عنوان "السلاح الاقتصادي: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة" للمؤرخ والاقتصادي الأمريكي "نيكولاس مولدر". وقد سلط هذا الكتاب الضوء على تطور العقوبات الاقتصادية خلال القرن العشرين، وتطرق إلى الأبعاد الأيديولوجية والسياسية للعقوبات الاقتصادية ودورها المزعوم في حفظ الأمن والسلم الدوليَّين.

خصائص رئيسية

أوضح الكتاب أن العقوبات الاقتصادية "Sanctions" تتميز عن غيرها من الممارسات والسياسات الاقتصادية الدولية المعاصرة بثلاث خصائص رئيسية؛ هي:

1– استهداف الدول المُهدِّدة للقيم العليا العالمية: ثمة بُعد أخلاقي للعقوبات الاقتصادية؛ حيث تُفرض هذه العقوبات في الأساس على الدول التي تهدِّد القيم العليا العالمية الموضوعة من قبل الدول المهيمِنة على النظام الاقتصادي العالمي وهيكل النظام الدولي، وعلى رأسها دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.

2– وجود أبعاد نفسية ومادية من وراء فرضها: تتضمن العقوبات الاقتصادية في ثناياها بُعداً نفسيّاً وبُعداً ماديّاً، وهو ما يجعلها من أخطر الأسلحة غير العسكرية التي تُستخدم في وقت السلم والحرب معاً، وهي بذلك تختلف عن الحصار الاقتصادي "Blockade" الذي تتبناه الدول بعضها ضد بعض في حالة إعلان الحرب.

وتختلف أيضاً عن المقاطعة الاقتصادية "boycotting" وهي الممارسة التي ينتهجها أفراد مجتمع أو دولة ضد دولة أخرى في وقت السلم، كما أن العقوبات الاقتصادية تتبوأ مرتبة أقل حدة من الحظر الكامل "embargo" للصادرات والواردات المُطبَّق على دولة أو مجموعة من الدول.

3– تقويض شرعية الساسة والنخب الحاكمة: لا تكتفي العقوبات الاقتصادية باستهداف الدول والقائمين على الحكم، بل تطال أيضاً الأفراد وأعضاء المجتمع المدني ورجال السياسة والمجتمع والاقتصاد بصورة شخصية، وهي بذلك أنهت ممارسة طويلة الأجل في السياسة الدولية استمرت حتى القرن الثامن عشر.

وتمحورت هذه الممارسة حول الفصل التام بين الخلاقات السياسية والعلاقات الاقتصادية من جهة، والفصل بين القيادة السياسية والنخب الحاكمة للدول المعتدية والمجتمعات الخاضعة لحكم الدول المخالِفة لقيم المجتمع الدولي من ناحية أخرى. وبذلك تحولت العقوبات إلى سلاح اقتصادي يستهدف الشرعية السياسية المحلية للحكومات القائمة.

مراحل التطور

أشار الكتاب إلى أن مراحل اعتراف القانون الدولي بالدور الذي تلعبه العقوبات، والذي قد يكون إيجابياً في بعض الأحيان؛ تتمثل فيما يلي:

1– لجوء الإمبراطوريات القديمة إلى العقوبات وقت الحروب: اعتادت الدول والإمبراطوريات الكبرى، منذ قديم الأزل، على عزل الدول المناوئة لها اقتصادياً، بمحاصرتها كلياً، أو الاستيلاء على القوافل التجارية التابعة لها. وقد كانت هذه الممارسات تقتصر على فترات الحروب فقط.

2– إقرار "عصبة الأمم" بأهمية العقوبات وقت السلم: تطورت العقوبات الاقتصادية بعد ذلك وتحولت إلى أداة لمعاقبة الخصوم في وقت السلم، منعاً للوصول إلى نقطة الحرب، وأصبحت جزءاً من القانون الدولي، عبر تضمينها في المادة السادسة عشرة من اتفاقية تأسيس منظمة "عصبة الأمم" لعام 1917، وصولاً إلى عام 1919 مع انعقاد "مؤتمر باريس للسلام".

3– تضمين العقوبات في ميثاق الأمم المتحدة: على الرغم من تفكك "عصبة الأمم" وحلول "الأمم المتحدة" محلها عقب الحرب العالمية الثانية، استمر تضمين العقوبات في الاتفاقية المؤسسة للأمم المتحدة في عام 1945، كما لعبت دوراً هامّاً في السنوات اللاحقة خلال الحرب الباردة وما بعدها.

مصادر القوة

نوه الكتاب بأن العقوبات الاقتصادية تستمد قوتها من مجموعة من المصادر، هي:

1– الاعتمادية المتبادلة بين الاقتصادات العالمية: تنبع قوة العقوبات الاقتصادية بصورة أساسية من العولمة الاقتصادية والاعتمادية المتبادلة بين الاقتصادات العالمية. وتعني العولمة الاقتصادية تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود، والتوسع المستمر والمتزايد لحدود الأسواق المتبادلة بين الدول، وتشير إلى الترابط الاقتصادي المتزايد بين دول العالم؛ نتيجةً لحركة السلع والخدمات عبر حدود الدول.

2– التركيز على ضرب سلاسل التوريد للخصوم: تمكن الدراسة المتعمقة لسلاسل التوريد، عبر الأدوات والقدرات الخاصة بأجهزة الاستخبارات الغربية، من التعرف على الخصائص المختلفة لاقتصاديات الدول المعادية، وطرق التجارة وسلاسل التوريد التي تعتمد عليها؛ ما يُمكِّن من تطبيق العقوبات على الدول المعادية واستهداف اقتصاداتها في مقتل.

وعلى سبيل المثال، مُنعت ألمانيا، عقب الحرب العالمية الثانية، من الحصول على المنجنيز (المعدن الذي يدخل في العديد من الصناعات الهامة كالزجاج والبطاريات) من البرازيل، وهو ما كان له عظيم الأثر على العديد من الصناعات الداخلية الألمانية، وقد كان من غير الممكن إلحاق هذا القدر من الضرر على الاقتصاد الألماني لولا الدراسة المتأنية لهذا المعدن ودوره في الاقتصاد الألماني ومصادر توريده.

3– تضمين الدول القوية للدول الأضعف في العقوبات: استغلت القوى الكبرى قدرتها على إرغام وترهيب الدول المتوسطة الحجم والصغيرة، لإجبارها على التخلي عن حيادها السياسي، وتطبيق العقوبات على الدول المعتدية، وفقاً لرؤية وتوجهات القوى الكبرى القائدة للنظام الدولي. وقد استندت العقوبات الاقتصادية على الافتراض الليبرالي التقليدي القائل بأن البشر بطبيعتهم عقلانيون، وهو ما يعني سعيهم الدائم إلى تحقيق مصالحهم الذاتية.

ومع فرض الدول عقوبات اقتصادية على مجتمعات الدول المعتدية، فإن هذا –وفقاً للنظرية الليبرالية– يتعارض مع مصالح أفراد هذا المجتمع؛ لذا فإن الشعوب ستثور على القيادة السياسية وسياساتها التي أودت بهم إلى هذا الخندق الضيق. ووفقاً للكتاب، فإنه على الرغم من ذلك، فإن قرارات البشر أكثر تعقيداً، ولا تقوم على أسس التفكير الرشيد العقلاني في أغلب الأوقات.

هدم المجتمعات

لفت الكتاب إلى أن العقوبات الاقتصادية تحمل جملة من العواقب السلبية على المجتمعات، ومن ذلك ما يلي:

1– خنق تدريجي للمجتمعات بدرجة تفوق الحروب: تعد العقوبات الاقتصادية من أخطر الأسلحة غير الحربية التي تستخدمها الدول بعضها ضد بعض، وقد شبَّهها الرئيس الأمريكي الأسبق "وويدرو ويلسون" بحالة الاختناق التام التي يمر بها الفرد قبل وفاته، وتكمن خطورتها في كونها سلاحاً فتاكاً لا يأخذ في الحسبان عواقبه الوخيمة على الدول والمجتمعات القابعة تحت رحمته؛ فقد تجاوز عدد ضحايا العقوبات الاقتصادية، ضحايا الغازات السامة والغارات الجوية خلال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

2– إتعاس حياة الشعوب في نصف الكرة الجنوبي: تحولت العقوبات الاقتصادية إلى سلاح فتاك في يد الإمبريالية العالمية، خاصةً مع هيمنة العولمة على النظام الدولي، وأصبحت هذه الأداة تستخدم ضد العديد من الدول والشعوب في نصف الكرة الجنوبي، حتى شرق أوروبا، تحت دعوى فرض قيم العالم الأول والمتقدم على دول ومجتمعات العالم النامي غير المتحضر.

3– تأثيرات سلبية على خصائص ونوعية السكان: امتدت عواقب العقوبات لتشمل صحة ومعدل النمو السكاني في عدد من المجتمعات بالشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية؛ حيث حُرمت العديد من الأمهات والسيدات خلال فترة الحمل والولادة من العناية الصحية والتغذية الصحيحة بفعل هذه العقوبات، وهو ما أدى إلى انتشار التشوهات الخلقية لدى العديد من الأجيال التي وُلدت تحت مغبَّة العقوبات الاقتصادية.

ونتيجة لهذا التطور ظهر علم "Biopolitics" الذي أخذ يبحث العلاقة بين السياسة والتطور البيولوجي للبشر، ناهيك عن سعي العديد من المدارس الفكرية السياسية –وعلى رأسها "المدرسة النسوية"– إلى شجب ورفض هذا النمط من السياسات في علاقات الدول بعضها مع بعض؛ لعواقبها غير المحمودة على الدول والأفراد، خاصةً النساء والأطفال.

انعكاسات أمنية

أكد الكتاب أن العقوبات الاقتصادية أثَّرت بدرجة كبيرة ومتفاوتة على جهود حفظ السلم والأمن الدوليين، ويدلل على ذلك ما يأتي:

1– دور العقوبات في إشعال الحرب العالمية الثانية: يغفل الكثير من المعلقين والمحللين السياسيين عن الدور الذي لعبته العقوبات الاقتصادية في إشعال الحرب العالمية الثانية؛ فقد أدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها القوى العظمى على إيطاليا الفاشية بقيادة "موسوليني"، بفعل غزو إيطاليا لإثيوبيا، إلى تخوف كل من ألمانيا واليابان من مجابهة المصير ذاته، على اعتبار أن ذلك يعني إصابة اقتصادهما ومجتمعاتهما بالشلل، والعزلة عن مسارات التجارة الدولية.

وقد أدى هذا الأمر إلى اكتساب النازيين والقوميين المتعصبين شعبية واسعة في كل من ألمانيا واليابان؛ إذ قام هؤلاء بالبحث عن مصادر دائمة للمواد الخام والمنتجات اللازمة للصناعة خارجيّاً، عبر التوسع الجغرافي واحتلال بعض الدول المجاورة. وفي النهاية أقدمت اليابان على احتلال الصين، وغزا "هتلر" أغلب دول القارة الأوروبية، ودخل العالم في حرب عالمية ثانية.

2– دعم العقوبات لاستقرار العالم بشرط الجماعية: بالرغم من مساهمة العقوبات الاقتصادية في إشعال شرارة الحرب العالمية الثانية، فإنها ظلت جزءاً هامّاً من النظام الدولي، ويعود ذلك إلى إدراك النظام الدولي الجديد أن العقوبات –لكي تحقق الغرض المقصود منها– يجب أن تُفرَض بالاتفاق بين أغلبية الدول الكبرى، دون حصرها على الدول الغربية الديمقراطية.

فقد ضم التحالف الدولي الداعم لفرض العقوبات، خلافاً لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، قوى لا يمكن تصنيفها تحت قائمة دول الإمبريالية العالمية، وعلى رأس هذه القوى الاتحاد السوفييتي. وقد ساهم هذا الأمر في إنجاح العقوبات التي فُرضت على كل من اليابان وألمانيا، بشكل أعاد الاتزان والاستقرار إلى النظام الدولي. وقد استمر العمل تحت هذه المنظومة خلال فترة الحرب الباردة، على الرغم من الصراع المحتدم الذي دار بين واشنطن وموسكو بشأن قيادة العالم.

3– تزايد قدرة الدول على التحايل على العقوبات: سيساهم تمكن الدول من تطوير طرق وأساليب تساعدها على التغلب على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ولجوء الأنظمة في ذات الوقت إلى استغلال هذه العقوبات لتبرير سلوكها الخارجي الذي يصفه المجتمع الدولي أو دول المعسكر الغربي بـ"العدواني"، في إضعاف فاعلية هذه العقوبات في الصراعات المستقبلية.

وختاماً، شدد الكتاب على أن نظام العقوبات الاقتصادية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة هو –في أحسن الأحوال– غير فعال في تحقيق أهدافه السياسية، وهو –في أسوأ الأحوال– عرضة لإحداث أنواع التصعيد السياسي غير المحمود الذي مُنيت به فترة ما بين الحربين خلال القرن العشرين. ورأى الكتاب أن من الأفضل أن تتحول العقوبات الاقتصادية من سلاح اقتصادي غير معروفةٍ النتائجُ المترتبةُ عليه، إلى سلاح إيجابي يقدم المساعدات والدعم للدول والأفراد القابعين تحت مغبة النظم والسياسات التي تهدد الأمن والسلم الدوليَّين.

المصدر:

Nicholas Mulder, The Economic Weapon: The Rise of Sanctions as a Tool of Modern War, (London: Yale University Press, January 25, 2022)

كيف يتم توظيف العقوبات كأداة للحروب الحديثة بين الدول؟