د. محمد عباس ناجي

نشرت صحيفة "طهران تايمز"، في 11 يناير 2025، مقالاً للكاتبة "سهيلة زرفام"، نفت فيه ما جاء في تقرير صحيفة "واشنطن بوست"، قبل ذلك بيوم واحد، حول تدهور صحة المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي"، واتفاق أركان النظام على نقل السلطة منه إلى ابنه "مجتبى" بعد وفاته، حيث اعتبرت أن هذا التقرير يتضمن أكاذيب عديدة نتيجة اعتماده على قناة معارضة تمولها إسرائيل، في إشارة إلى قناة "إيران إنترناشونال".اللافت في هذا الجدل المتجدد توقيته، حيث جاء في خضم حالة من الضعف الشديد تتعرض لها إيران على المستويين الداخلي والخارجي، أولاً بسبب اتساع نطاق ما يمكن تسميته بـ"الشرخ" القائم بين النظام السياسي الحاكم والشارع الإيراني، وثانياً بسبب تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وثالثاً بسبب تعرض المشروع الإقليمي الإيراني لضربات قوية لم يتم استيعابها بعد على خلفية تداعيات الحرب التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة ثم لبنان بدايةً من 7 أكتوبر 2023.هنا، يمكن القول إن تعمد صحيفة "طهران تايمز" القريبة من مؤسسات النظام الإيراني، الإشارة إلى قضية خلافة "خامنئي" مجدداً، في هذا التوقيت، يهدف إلى توجيه رسائل مباشرة إلى الداخل الإيراني في المقام الأول، خاصةً أنها استندت إلى تصريحات منسوبة لعضو مجلس الخبراء "محمود محمدي عراقي"، أدلى بها في 12 فبراير الماضي، وأشار فيها إلى أن اللجنة الثلاثية التي يحددها مجلس الخبراء وفقاً للمادتين 107 و109 من الدستور، والتي تدرس ضمن مهامها المرشحين المحتملين لخلافة "خامنئي"، طرحت على المرشد تحديد اسم أحد أبنائه الأربعة -كلهم من رجال الدين- ليحل محله بعد وفاته؛ إلا أن الأخير رفض ذلك بشدة، معتبراً أن الأمر موكول إلى مجلس الخبراء.دوافع عديدةيمكن تفسير أسباب تعمد النظام الإيراني إثارة الجدل حول هذه القضية مجدداً في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:1- الرد على "دعاية العدو" ضد النظام: يمكن النظر إلى هذه الخطوة التي أقدم عليها النظام الإيراني في ضوء رؤيته الحالية لاتجاهات العلاقات مع الدول الغربية وإسرائيل خلال المرحلة القادمة. إذ يرى النظام الإيراني أن هناك حملة قوية تشنها تلك الدول من أجل استغلال ما جرى على الصعيد الإقليمي، لإضعاف النظام الإيراني وتقويض دعائمه في الداخل، بهدف إسقاطه.من هنا، كان لافتاً أن الرد على ما جاء في صحيفة "واشنطن بوست" توازى مع الاستعراضات العسكرية التي يقوم بها النظام الإيراني في الشارع، والتي تُشبه ما يمكن تسميته بـ"مظاهرة عسكرية" يقودها الحرس الثوري في شوارع طهران وغيرها من المحافظات، لشن حملة مضادة تهدف إلى التأكيد على أن النظام الإيراني ما زال قوياً، وأن محاولات خصومه لتقويض دعائمه لن تحقق نجاحاً يذكر وفقاً لرؤيته.2- التحسب من سيناريو سقوط "الأسد": ربما لا تفصل القيادة العليا في طهران بين تعمد وسائل الإعلام الغربية وتلك التابعة لمنظمات المعارضة الإيرانية في الخارج فتح ملف خلافة "خامنئي"، وبين التطورات التي شهدتها سوريا في 8 ديسمبر 2024، حيث سقط نظام الرئيس السوري "بشار الأسد"، بعد قيام هيئة تحرير الشام والجيش الوطني السوري والفصائل المسلحة الأخرى باجتياح المدن الرئيسية الواحدة تلو الأخرى، بدايةً من حلب مروراً بحمص وحماة وأخيراً العاصمة دمشق.وفي رؤية القيادة الإيرانية، فإن إحدى الآليات التي استندت إليها الأطراف المناوئة لنظام "الأسد" كانت توريث الحكم من الرئيس الأسبق "حافظ الأسد" لابنه "بشار" في عام 2000. فرغم أن حكم الأخير استمر 24 عاماً، إلا أنه تخلله نحو 13 عاماً من الصراع الدموي الذي يعد أكبر الصراعات دموية مقارنةً بغيره من الصراعات التي اجتاحت العديد من الدول العربية بدايةً من عام 2011، ولا سيما الصراعين اليمني والليبي. فضلاً عن أنه انتهى بسقوطه وتسليم السلطة إلى تنظيمات إرهابية ومسلحة.ربما لا تكمن المشكلة هنا، وفقاً لرؤية القيادة الإيرانية، في التوريث في حد ذاته، وإنما في الآليات التي استخدمها النظام للتعامل مع ضغوط الشارع، والتي ثبت أنها لم تنجح في حمايته من خطر السقوط في النهاية. وهنا، فإن "خامنئي" ربما يعتبر أن تعمد وسائل الإعلام الغربية فتح ملف التوريث في إيران في هذا التوقيت معناه التلميح إلى أن مصير إيران لن يختلف عن مصير سوريا، أو بمعنى أدق فإن النظام الإيراني في حالة توريث منصب المرشد إلى "مجتبى خامنئي" يكون بذلك قد جهّز بنفسه "وصفة ممتازة للانتحار".3- تقليص ضغوط الشارع الإيراني: ربما يمكن القول إن تعمد "طهران تايمز" الإشارة إلى هذا الملف تحديداً يأتي في سياق الخطوات التي يتخذها النظام والحكومة من أجل تقليص حدة الضغوط التي يتعرضان لها من قبل الشارع الإيراني خلال الفترة الماضية. إذ إن الهدف الأساسي هنا هو التلميح إلى أن المرشد لا يميل إلى سيناريو توريث المنصب إلى أحد أبنائه.وهنا، فإن ذلك يأتي في سياق الخطوات التي سبق أن اتخذتها الحكومة برئاسة "مسعود بزشكيان" أيضاً، على غرار تأجيل تطبيق قانون "العفة والحجاب"، الذي كان من الممكن أن يثير أزمات جديدة في الداخل في ظل العقوبات المشددة التي يطبقها على النساء اللواتي لا يلتزمن بقواعد ارتداء الحجاب، فضلاً عن السماح باستخدام تطبيقات مثل "واتس آب"، و"جوجل بلاي".بل إن انتخاب "مسعود بزشكيان" نفسه ووصوله إلى منصب رئيس الجمهورية، في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت عقب وفاة الرئيس السابق "إبراهيم رئيسي" في حادث سقوط مروحية في محافظة أذربيجان الشرقية في 19 مايو 2024، على مرحلتين في 28 يونيو و5 يوليو 2024، كان إشارة من النظام إلى الشارع، الهدف منها هو تقليص الضغوط التي يمارسها الأخير على الأول بسبب الأزمات العديدة التي يتعرض لها خلال الفترة الحالية.4- الترويج لدور "دولة المؤسسات": يرتبط ذلك أيضاً بسعي النظام إلى مواجهة ما يسميه "الحرب النفسية" التي تشنها الدول الغربية وإسرائيل ضده. إذ إن موقف "خامنئي" في الأساس يقوم على أن اختيار من سيخلفه هي مهمة تقع على عاتق مجلس الخبراء، وهو ما أشارت إليه أيضاً صحيفة "طهران تايمز" في ردها على تقرير "واشنطن بوست".وهنا، فإن الرسالة مفادها أن إيران -وفقاً للدعاية التي يتبناها النظام الإيراني- دولة تحكمها مؤسسات ولا يتحكم فيها شخص واحد مهما كانت سلطاته داخل النظام. وبالطبع، فإن ذلك لا ينفصل عن الخطوات السابق ذكرها والتي تهدف إلى تقليص حدة الضغوط التي يمارسها الشارع ضد النظام، خاصةً فيما يتعلق بالحقوق والحريات.حسابات معقدةهنا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه مفاده: هل "خامنئي" يرفض حقيقة توريث المنصب لـ"مجتبى"؟. في الحقيقة لا توجد إجابة محددة. لكن يمكن إبداء ملاحظتين ربما تساعدان في طرح تصور محدد بشأن هذه القضية الملحة في إيران. أولهما، أن رفض توريث المنصب إلى "مجتبى"، والذي ركزت عليه صحيفة "طهران تايمز"، مرتبط بتوقيت فتح الملف، والذي سبقت الإشارة إلى أنه حرج بالنسبة لإيران، بما يعني أنه يمكن فتح الملف ثانية في توقيت آخر ربما يكون مواتياً بشكل أكبر. وثانيها، أن هناك إشارة إلى أن اختيار المرشد المقبل ليس من صلاحيات رجال الدين، وإنما من صلاحيات مجلس الخبراء، وهذه حقيقة لا تنفي إمكانية تكليف "مجتبى" بالمنصب مستقبلاً، باعتبار أن مجلس الخبراء هو الذي يمكن أن يكلفه بذلك.وهنا، فإن ذلك يعني في الأخير أن قضية خلافة "خامنئي" وتوريث "مجتبى" سوف تبقى مفتوحة ومثار جدل واسع داخل وخارج إيران خلال المرحلة القادمة، حيث إن ما جاء في صحيفة "طهران تايمز" لا يقطع بأن المرشد الحالي يرفض توريث الحكم لأحد أبنائه.

هل يعارض "خامنئي" توريث منصبه لنجله "مجتبى"؟