د. يوسف داوود


        
<p><strong>أنتجت الحرب الأوكرانية عدداً من الانعكاسات العميقة المتعلقة بمستقبل تماسك الاتحاد الأوروبي</strong><strong>، و</strong><strong>رغم عدم عضوية أوكرانيا في الاتحاد، فإن الحرب الروسية – الأوكرانية لم تُخلِّف تداعيات اقتصادية جمَّة فقط على دول الجوار الجغرافي الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، بل أثارت الشكوك حول مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على التماسك بوصفه منظمة في ظل التحديات الإقليمية والدولية المحيطة به، خاصةً مع وجود تقدير عام بأن الاتحاد لن يتحمل صدمات أخرى بعد خروج بريطانيا منه، وأن جنوح دول أخرى للاستقلال عنه يشير عملياً إلى انزوائه رويداً رويداً. من هنا، جاءت الحرب الروسية – الأوكرانية كاشفة عن مجموعة من المؤثرات – أو مسببة لها – قد تُرتِّب آثاراً على تماسك الاتحاد الأوروبي على </strong><strong>المديين القريب والبعيد</strong><strong>، وهي التي لا يمكن تناولها بمعزل عن أنماط استجابة الاتحاد الأوروبي ودُوله لهذه المؤثرات الخارجية.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">ارتدادات الصراع</span></strong></p>



<p><strong>أفضت الحرب الأوكرانية إلى عدد من التداعيات والارتدادات التي أثارت الكثير من الشكوك بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي، وقدرته على تبني سياسات موحدة ومُتوافَق عليها من قِبل أعضائه. وفي هذا الإطار، يمكن تناول أبرز ارتدادات الحرب الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي على النحو الآتي: </strong><strong></strong></p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– الأزمة الاقتصادية وتأثُّر القطاعات الحيوية في أوروبا:</strong> لا يمكن إغفال حقيقة مفادها أن مشروع التكامل الأوروبي مشروع اقتصادي في الأساس، جاء للنهوض باقتصادات الدول الأعضاء، كما أن مأسسته وتأطيره في إطار دبلوماسي رسمي، جاء ترجمةً لشراكات اقتصادية قائمة بالفعل بدأت بتجمع الفحم والحديد، وصولاً إلى السوق الأوروبية المشتركة. من هنا، مثَّلت الآثار الاقتصادية الناجمة عن الحرب الأوكرانية، اختباراً حقيقياً لقدرة الاتحاد على تحمل هذه الآثار التي جاءت درجة تأثيرها متفاوتةً على مختلف دوله؛ حيث وجدت الاقتصادات الكبرى – مثل ألمانيا – نفسها في وضع حرج فيما يخص قطاعات بعينها، مثل قطاع الطاقة، بينما وجدت الاقتصادات الأصغر، وخاصةً في دول شرق أوروبا، نفسها أمام أزمة عامة بارتفاع مستويات الدين العام، واختلالات هيكلية في ميزان المدفوعات.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وبعكس أزمات الديون الداخلية التي ضربت الاتحاد مسبقاً (مثل أزمة اليونان والبرتغال)؛ حيث تدخلت الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا لعلاج الأزمة؛ فإن آثار الأزمة الأوكرانية قد طالت الجميع، وأجبرت جميع الحكومات على الانكفاء داخلياً، والدعوة إلى تحمل كل طرف فاتورته الخاصة. هذا التأثير الاقتصادي المعمم، الذي جاء عقب تأثير مماثل من جراء تفشي جائحة كورونا وتراجع معدلات النمو الاقتصادي عالمياً، يمثل اختباراً حقيقياً لقدرة الاتحاد الأوروبي على الصمود والاحتفاظ بتماسكه، في ظل انشغال كل دولة بعلاج الوضع الداخلي فيها، الذي تفاقم نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تصاعد التباينات الأوروبية حول ملف العقوبات:</strong> أدت الحرب الأوكرانية، وما تبعها من فرض عقوبات أوروبية على روسيا، إلى تصاعد الخلافات والتباينات بين الدول الأوروبية؛ ففيما دفعت بعض الدول الأوروبية نحو فرض المزيد من العقوبات على روسيا، أبدت دول أخرى معارضتها هذا النهج، ورأت أنه يضر بالمصالح الأوروبية؛ فعلى سبيل المثال، عارضت المجر فرض عقوبات وحظر على واردات النفط والغاز الروسية؛ حيث يشير المسؤولون إلى أن "شحنات النفط الروسية عبر خط أنابيب دروجبا تمثل نحو 65% من النفط الذي تحتاجه المجر، ولا توجد طرق إمداد بديلة يمكن أن تحل محلها".</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تأكيد أهمية حلف الناتو باعتباره ضامناً للأمن الأوروبي:</strong> رغم امتلاك الاتحاد الأوروبي سياسة خارجية وأمنية مشتركة، فإن هذه المسائل تظل – وفقاً لاتفاقية ماستريخت واتفاقية لشبونة – من السياسات التي تتمتع فيها الدول بالصلاحيات الحصرية، ويكون دور المجلس الأوروبي فيها دوراً تنسيقياً استشارياً. ونظراً إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية قد رفعت درجة الاهتمام بالاعتبارات العسكرية البحتة – التي تراجعت في الأجندة الخارجية لدول الاتحاد؛ نظراً إلى استبعادها وقوع صراعات مسلحة في القارة – فإن جُل الاهتمام انصبَّ على تعزيز أدوار حلف الناتو، باعتباره عنصر الردع العملي الوحيد أمام مزيد من التمددات الروسية في القارة. وفي الوقت الذي أصبح فيه الحلف جذاباً أكثر لانضمام دول أخرى – آخرها فنلندا والسويد – فإن توسع عضوية الاتحاد الأوروبي قد توقف فعلياً منذ عام 2020، بل شهدت المنظومة الأوروبية صدمة قوية بتفعيل انسحاب بريطانيا من الاتحاد في العام ذاته، وهو ما يعتبر مؤشراً على تراجع جاذبية الاتحاد الأوروبي من الأساس، وتعميق هذا التوجه بعد غلبة الاعتبارات العسكرية – عقب الحرب الروسية على أوكرانيا – على أي اعتبارات أخرى.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– معضلة التغيرات الديموغرافية:</strong> طالما واجه الاتحاد الأوروبي أزمة ديموغرافية تتعلق بارتفاع نسب الشيخوخة، وتقلُّص نسبة القوة العاملة؛ حيث انتهج سياسات منسقة طوال العشرين عاماً الماضية لرسم سياسات هجرة فعالة تسهم في رفع نسبة المكون الشبابي في دوله، مع ضبط أكثر صرامةً لمسائل الهجرة واللاجئين مع ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية في القارة العجوز منذ عام 2015.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ورغم تمثيل هذه الأزمة الديموغرافية عنصر تهديد مستقبلي على تماسك الاتحاد الأوروبي وديمومته، فإن الأزمة الأوكرانية عمَّقت المشكلة الديموغرافية من زاوية أخري، وهي تناثر أعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين الأوكرانيين في دول الجوار الجغرافي الأوروبي، بما يؤشر على تفكك القواعد المركزية الحاكمة لعمليات استقبال للاجئين بصورة فعلية، وهو ما ستظهر آثاره الاقتصادية والاجتماعية خلال الأعوام القليلة الماضية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وفقاً للأمم المتحدة، غادر أكثر من 11 مليوناً منازلهم في أوكرانيا حتى الآن، منهم 5.3 مليون نزحوا إلى البلدان المجاورة، بينما نزح 6.5 مليون داخلياً مع استمرار الحرب. ومع هذا فإن ذلك التحدي لا يفرض على المجلس الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي ضرورة رسم سياسات لاستقبال اللاجئين وتوفير مساعدات للنازحين فقط، بل يستوجب أيضاً مراجعة شاملة لسياسات الضبط الديموغرافي المركزية التي تبناها الاتحاد لعقود، مع أخذه في الحسبان تأثير ذلك على معدلات الشيخوخة.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– صدمة منظومة القيم الغربية:</strong> لا شك أن البناء الأوروبي الاقتصادي والسياسي ما كان ليُكتَب له النجاح دون وجود قاعدة قيمية مشتركة تجمع دوله، بل تساهم في الحفاظ على تماسكه ما دامت هذه القيم دون مساس. هذا، وقد بنى الاتحاد الأوروبي جزءاً معتبراً من هذه الكينونة على النموذج الليبرالي الغربي للديمقراطية، وغلبة النظرة الفردية للحقوق على حساب الإلزام الجمعي للواجبات، ناهيك عن وضع مسائل حقوق الإنسان في قلب السياستَين الداخلية والخارجية. من هنا، مثَّلت الحرب الروسية على أوكرانيا اختباراً لمدى صمود وتماسك هذه المنظومة القيمية – ممثلة في تماسك الاتحاد الأوروبي من حيث كونه منظمة – أمام بناء أيديولوجي ومجتمعي مختلف يعتمد على المركزية السياسية، وتغليب اعتبارات الأمن القومي على مسائل الحقوق والحريات، التي يراها الغرب سلطوية انتهازية. لذلك تعمدت دول الاتحاد، ومن قبلها الولايات المتحدة، تسليط الضوء على الطبيعة الدكتاتورية لنظام الحكم في الكرملين، مُلقِين الضوء على التغيير السياسي بوصفه عنصر حسم في الحرب الدائرة، وعلى نحو ضمني كشاهد على تماسك المنظومة القيمية لدول الاتحاد وواشنطن، وما تعنيه لاستمرارية تماسك الاتحاد الأوروبي من حيث كونه منظمة.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">الاستجابة الأوروبية</span></strong></p>



<p>لا يمكن بناء تصور بشأن مدى قدرة الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على تماسكه أمام هذه المؤثرات، دون رصد لأنماط استجابة وتفاعل الاتحاد الأوروبي معها، وهي الاستجابات التي من شأنها إما تعزيز قدرته على الصمود والاستمرارية، أو الإسهام في تحلله تدريجياً. وفي حقيقة الأمر، يمكن رصد نمطين من أنماط الاستجابة للاتحاد في مواجهة هذه المؤثرات، وهما وإن بديا متعارضَين من حيث الجوهر، فإنهما يكشفان معاً في الوقت نفسه مدى تعقد الواقع الإقليمي الراهن، وأن العمل الموحد في مجالات معينة لا يلغي وجود اختلافات جوهرية على صعيد الأولويات السياسية. ويتمثل هذان النمطان في الآتي:</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- العمل المشترك والتحرك الفعلي:</strong> للاستجابة لتأثيرات الحرب الأوكرانية، اتخذ الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه عدداً من السياسات المنسقة الطويلة الأمد، وتم الاستقرار على خطوات كانت ستواجه في ظل الظروف العادية معارضة قوية من مختلف الاتجاهات. وتشمل هذه القرارات، على سبيل المثال، قيام الاتحاد الأوروبي بتمويل صفقات تسليم أسلحة فتاكة إلى دولة ثالثة لأول مرة في تاريخه. وهو ما أرسل إشارات – وإن كانت مختلطة إلى حد ما – عن انفتاح الاتحاد على عضوية الجيران الشرقيين بعد سنوات من الإنهاك الناتج عن التوسع. وللمرة الأولى أيضاً، أُصدر توجيه الحماية المؤقتة لعام 2001، الذي يمنح الإقامة المؤقتة للاجئين الأوكرانيين. وهي كلها – كما يتضح – سياسات منسقة وموحدة تستهدف الاستجابة للمؤثرات المُشار إليها سابقاً.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- التخبُّط والاختلافات الداخلية:</strong> ظهر التخبط والاختلافات الداخلية في مواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية في مسألة توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي؛ فقد توقفت عملية توسيع الاتحاد بسبب اعتبارين: فمن جانب، أصبحت الدول الأعضاء مترددة في السماح بدخول دول جديدة إلى النادي في ظل تحقيق المرشحين للانضمام تقدماً بطيئاً في الإصلاحات المطلوبة (حالة دول غرب البلقان).</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ومن جانب آخر، فقد الاتحاد الأوروبي كثيراً من نفوذه لحل النزاعات في المنطقة، وهي المسألة التي تشكل في حد ذاتها عقبة كبيرة أمام الانضمام؛ لذلك تواجه احتمالات انضمام أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا إلى الاتحاد الأوروبي تخبطاً واضحاً بين دول الاتحاد المتخوفة من العاملين السالف ذكرهما، والدول الأخرى التي ترغب في أي توسع للاتحاد قد يسهم في خلق انطباع بأن الاتحاد لا يزال مرغوباً فيه. هذا، وإن كانت حالة طلب انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي تحظى في الوقت الراهن بنوع من القبول المعنوي، إلا أن الاختلافات الداخلية لا تزال تلعب دوراً خفياً في تعطيل الدفع بهذا الترشيح بقدر أكثر زخماً، وهو ما تحاول رئيسة المفوضية الأوروبية حلحلته ثنائياً مع الدول المترددة.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ختاماً، تلزم الإشارة إلى أمرين أساسيين، أولهما أن جمع الاتحاد الأوروبي نمطَي الاستجابة في الوقت نفسه هو انعكاس لحجم المراجعة الداخلية التي يشهدها الاتحاد، ومن جهة ثانية، يُلاحَظ تركز الاستجابات المنسقة للاتحاد على المؤثرات العسكرية والديموغرافية والقيمية تجاه الحرب الأوكرانية، مع غياب استراتيجية اقتصادية داخلية موحدة تخفف آثار أزمات الطاقة والتضخم التي يعاني منها الاتحاد بشكل كبير، رغم وجود مساعٍ اقتصادية منسقة موجهة للخارج، وهي المساعي الخاصة بتقديم الدعم الاقتصادي لأوكرانيا؛ لذلك إن كان تحقيق رؤية منسقة في الاتجاهات المُشار إليها يمثل عامل دعم لتماسك الاتحاد الأوروبي، إلا أن غياب استراتيجية مواجهة اقتصادية داخلية موحدة من شأنه أن يُلوِّح باستمرار باحتماليات التفكك والانهيار.</p>

      

كيف تؤثر الحرب الأوكرانية على تماسك الاتحاد الأوروبي؟