عقد "إنترريجونال" للتحليلات الاستراتيجية، يوم 25 فبراير 2022، حلقة نقاشية بعنوان "اليوم التالي: ماذا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؟"، استضاف خلالها الدكتور/ صامويل راماني محاضر العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد والزميل المشارك بمؤسسة الخدمات الملكية المتحدة في بريطانيا. وقد تناولت الحلقة تطورات الأزمة الأوكرانية بعد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والتداعيات المرتبطة بهذا التدخل، والسيناريوهات المحتملة للأزمة.

السياقات التاريخية

استهل د. راماني تحليله للأزمة الأوكرانية بتأكيد أن هناك العديد من العوامل التاريخية التي ساهمت في تأزم العلاقات بين أوكرانيا وروسيا. وفي هذا الإطار، أشار إلى عدد من العوامل الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:

1– محاولة الموازنة الأوكرانية بين روسيا والغرب: مرت أوكرانيا منذ الاستقلال عن الاتحاد السوفييتي في 1991، بانقسام داخلي وصراع توجهات، وبالتحديد انقسام في السياسة الخارجية بين اتجاهين: الأول هو التماهي مع روسيا واتباع حذوها. أما الاتجاه الثاني فيتعلق باتباع الغرب. وسرعان ما اتخذ هذا الانقسام في التوجهات مظهراً جغرافيّاً ومناطقيّاً في ظل الخلافات بين شرق أوكرانيا وغربها؛ حيث كان الشرق ميالاً لاتباع روسيا، وكان الغرب ميالاً لاتباع أوروبا والمنظومة الغربية بوجه عام. ولكن لم تتخذ أوكرانيا قراراً حاسماً في هذا الأمر، وحاولت إرضاء كلا الطرفين في العديد من المناسبات.

2– تأثير الثورة البرتقالية على سياسة أوكرانيا: شكلت الثورة البرتقالية في 2004 نقطة تحول مهمة في السياسة الخارجية الأوكرانية، لا سيما أن الثورة أفضت إلى وصول حكومة جديدة في كييف تميل ناحية الغرب. وخلال تلك الفترة، قامت أوكرانيا بالاندماج أكثر في المنظومة الغربية، وزادت محاولات التقرب من الاتحاد الأوروبي، كما ظهرت في عام 2006 خطوات جادة من قبل كييف للانضمام إلى حلف الناتو. وهكذا تشكلت في هذه المرحلة ملامح الاتجاه المكثف نحو الغرب، وهو ما قوبل بهجوم روسي، والترويج لسردية أن الثورة البرتقالية هي مجرد مؤامرة من الولايات المتحدة.

3– محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وفقدان القرم: يشير د. راماني إلى أن الوضع في أوكرانيا تدهور مجدداً في عام 2013؛ عندما تَكَشَّف الحديث عن مباحثات لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من أن كييف حاولت تهدئة مخاوف موسكو حينها، فإن روسيا تدخلت في أوكرانيا عام 2014، وهو التدخل الذي أفضى إلى ضم شبه جزيرة القرم، وأصبح الوضع أقرب ما يكون إلى سلام متجمد بين الدولتين حتى تفجر الوضع يوم 24 فبراير 2022.

دوافع التدخل

أوضح د. راماني أن هناك مجموعة من الأسباب الرئيسية يمكن من خلالها تفسير التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا؛ وذلك على النحو التالي:

1– سعي موسكو إلى إعادة تشكيل الأمن الأوروبي: فالحرب الروسية على أوكرانيا هذه المرة ليست حول أوكرانيا بتاتاً، لا سيما أنه لا يوجد تغير كبير في الموقف على الأرض بين روسيا وأوكرانيا، ولا فيما يتعلق بوقف إطلاق النيران، كما أن الدول الغربية أكدت في أكثر من مناسبة أنها لا تسعى إلى ضم أوكرانيا في حلف الناتو. ومن ثم، يبدو أن روسيا تسعى بالتدخل العسكري الراهن إلى إعادة تشكيل ملامح وصيغة الأمن الأوروبي، وإرغام الغرب على إظهار المزيد من الاحترام لروسيا، وضبط توسعات حلف الناتو المستقبلية.

2– تأثير العوامل الداخلية الضاغطة في روسيا: يرتبط التدخل الروسي في أوكرانيا، سواء في 2014 أو 2022، بالموقف الداخلي الروسي؛ حيث لا يمكن فهم الموقف الروسي عالميّاً من دون النظر إلى ما يحدث داخل روسيا والظروف الداخلية.وفي هذا الإطار، أوضح د. راماني أن روسيا تواجه تحديات داخلية عديدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فعلى سبيل المثال، أشارت بعض التقارير في السنوات الماضية إلى أن الرئيس الروسي "بوتين" ليس قادراً على تلبية مطالب المواطنين، ولعل هذا ما دفعه إلى تقديم تنازلات للمتظاهرين في عام 2018.

3– استغلال السرديات الوطنية الروسية المناهضة لأوكرانيا: توجد سردية سائدة داخل روسيا حول طبيعة العلاقة بين روسيا وأوكرانيا؛ فهنالك روايات طويلة الأمد تقول إن أوكرانيا هي بلد مصطنع، وإن روسيا وأوكرانيا شعب واحد. وهناك أيضاً سرديات أخرى من قبيل أن الساسة الأوكرانيين تابعون للغرب وأشبه بالنازيين الجدد، ويهددون الأمن القومي لروسيا. هذه الروايات التي كررها الكرملين ووسائل الإعلام الروسية على مدى الأسابيع الماضية، هي في الأساس، روايات شائعة على المستوى المحلي. ولا يمكن إغفال أن هذه الروايات تغذي، بشكل أو بآخر، التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.

4– رغبة روسيا في السيطرة على منطقة دونباس: ثمة دافع روسي رئيسي إلى التدخل في أوكرانيا، ويتعلق بالرغبة في الهيمنة على منطقة دونباس وتقويض السيادة الأوكرانية، وتأكيد وجود نظام موالٍ لروسيا في كييف، كما تحدث بوتين عن نزع السلاح من أوكرانيا، وأن أحد أهداف هذه العملية هو تغيير النظام الحالي في أوكرانيا. وهذا يوضح أن روسيا لا تريد لأوكرانيا أن تتخذ قرارات ذات سيادة.

سيناريوهات محتملة

افترض د. راماني أن هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية للتدخل العسكري الروسي:

1– تغيير صريح للنظام في أوكرانيا: فمن الواضح أن الهدف الرئيسي للعملية العسكرية الروسية ليس احتلال أوكرانيا، بل تغيير النظام الحاكم هناك. ويمكن أن يتحقق هذا الهدف بطرق عدة؛ أحدها الاحتلال المؤقت والسيطرة على كييف وإسقاط الرئيس الحالي. ويمكن أن تستخدم موسكو بعض التكتيكات الأخرى، مثل الهجمات السيبرانية التي تستهدف التعطيل المؤقت لأجهزة الدولة الأوكرانية، ومن ثم فرض المزيد من الضغوط على النظام. وعلاوة على ذلك، قد تسعى موسكو إلى تحريك العناصر المؤيدة لروسيا داخل البرلمان الأوكراني؛ وذلك لإحداث فوضى والضغط على السلطة الأوكرانية.

2– تجميد روسيا للصراع الجاري: يفترض هذا السيناريو أن تقوم روسيا بتنفيذ عملية عسكرية محدودة تقوم بموجبها بتوسيع دائرة نفوذها في شرق أوكرانيا، ثم تتجه بعد ذلك إلى الدبلوماسية، ويتم تجميد الوضع الميداني على الأرض بحيث لا تتقدم القوات الروسية باتجاه إنهاء سيطرة النظام الحاكم في أوكرانيا.

3– التوسع العسكري الإقليمي: يتمثل هذا السيناريو في التصور الشديد التطرف للتوسع العسكري الروسي، وبموجبه تنفذ موسكو عمليات عسكرية أكثر اتساعاً خارج أوكرانيا، ولا سيما في جورجيا ودول البلطيق ومولدوفا، وإن كان مثل هذا السيناريو أقل ترجيحاً مقارنةً بالسيناريوهات السابقة.

قيود التدخل

بالرغم من أن السيناريوهات الثلاثة السابقة قابلة للتحقق، فإنها أيضاً تواجه عدداً من القيود والتحديات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– المقاومة الشرسة من الجيش الأوكراني: فوجئ الكثير من المتابعين، حسب د. راماني، بقدرة الجيش الأوكراني على الثبات في مواجهة الضربات الجوية الروسية. صحيح أن القوات الروسية سيطرت على تشرنوبل وعلى مطار عسكري في كييف، ولكن ليست معلوماً حتى الآن إذا ما كانت القوات الروسية ستستمر في سيطرتها على هذه المناطق أم لا. وتوجد بعض المناطق التي يصعب السيطرة عليها من قبل القوات الروسية؛ وذلك لعدائها الشديد لروسيا. ووفقاً لتقارير مخابراتية بريطانية، فإن الخسائر البشرية الروسية وصلت إلى مستويات غير متخيلة في اليوم الأول للغزو؛ ما ينذر بأن هذه ليست المعركة الهينة التي اعتقدت موسكو أنها على وشك خوضها.

2– تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا: تعد العقوبات الغربية، سواء التي تم اتخاذها بالفعل أو يجري التفكير في فرضها على روسيا، معرقلة أكثر من أي وقت مضي؛ فلقد شاهدنا محاولات من بريطانيا لفرض عقوبات على روسيا أكثر مما حدث في عام 2014. وتتمثل أهم العقوبات في دراسة إخراج البنوك الروسية خارج الأنظمة المالية، وكذلك مساعي بريطانيا إلى إقناع الغرب بطرد روسيا من نظام سويفت، بالإضافة إلى عقوبات أخرى مقترحة من دول أخرى، مثل تقييد الولايات المتحدة السماح لروسيا للوصول إلى التكنولوجيا، وأشباه الموصلات من تايوان، وكذلك إيقاف ألمانيا خط غاز نورد ستريم.

3– ظهور رد فعلى محلي داخل روسيا معارض للحرب: توجد العديد من الشخصيات الروسية البارزة تندد بالغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك أمر لم يحدث في 2014، كما أصبح وسم "لا للحرب" منتشراً على مواقع التواصل الاجتماعي. وعلاوة على ذلك، أشارت بعض استطلاعات الرأي إلى أن هناك نسبة لا بأس بها من الروس يرفضون التدخل العسكري في أوكرانيا. وبوجه عام، هناك قلق حول وضع الاقتصاد الروسي ومدى تأثره بتبعات الحرب، وكذلك صورة روسيا أمام العالم والمعضلة الأخلاقية حول إشعال الحرب للأسباب التي تتبناها روسيا.

تداعيات ممتدة

استدعى التدخل الروسي في أوكرانيا عدداً من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– محاولة روسيا الاستفادة من شبكة تحالفاتها: هناك أطراف يمكن أن تساعد موسكو في الصراع داخل أوكرانيا، ومنها بيلاروسيا التي توفر لموسكو دعماً لوجيستيّاً. ولعل هذا ما دفع بعض الأطراف، مثل بريطانيا، إلى المطالبة بفرض عقوبات على بيلاروسيا مماثلة لتلك التي يتم فرضها على موسكو. ومن جهة أخرى، ستحاول دول أخرى، مثل الصين والهند، مساعدة روسيا من خلال منحها إمكانية الوصول إلى سلع وصادرات القمح والغاز، ومساعدة العملة الروسية والصادرات. وهناك أيضاً بعض الدول التي ستساعد بشكل سلبي في الأمم المتحدة، من خلال التصويت لصالح موسكو أو الامتناع عن التصويت في القرارات التي قد تصدر ضدها. وعلاوةً على ذلك، أظهرت مسألة الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوجانسك، وجود عدد من الأطراف الداعمة لموسكو؛ حيث ظهر بعض الداعمين الرئيسيين لقرار الاعتراف؛ وذلك على غرار سوريا، والحوثيين في اليمن، ونيكاراجوا، وفنزويلا، وجمهورية إفريقيا الوسطى. كما قد تؤدي الأزمة الأوكرانية إلى توطيد العلاقات بين حلفاء روسيا الأمنيين، مثل منظمة أوراسيا الاقتصادية، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي أثبتت أنها حليف فعال، واتضح ذلك في كازاخستان في الشهور الماضية؛ حينما تدخلت قوات تابعة لدول المنظمة لاستعادة الاستقرار داخل كازاخستان.

2– تصاعد أهمية الدور الصيني في النظام الدولي: ربما تدفع الأزمة الأوكرانية الراهنة إلى تعزيز أهمية الدور الصيني في السياق الدولي؛ فالصين يمكنها أن تلعب دوراً مركزيّاً، وربما تطرح نفسها راعياً للسلام، وقد تلعب دوراً دبلوماسيّاً في الأزمة الراهنة. صحيح أن بكين عبَّرت عن تضامنها مع روسيا في مواجهة "الثورات الملونة"، ومعارضة توسع حلف الناتو؛ فإنها لا تدعم بالضرورة تحركات روسيا العسكرية؛ فهي لا تريد أن تكون تصرفات روسيا غير متوقعة وبلا قيود؛ لأن ذلك قد يشكل إضراراً بالمصالح الصينية. وتمتلك الصين عدداً من المصالح الاقتصادية في وسط وشرق أوروبا؛ حيث تنفذ مشاريع بنية تحتية ضخمة في بيلاروسيا، وتوسع وجودها الاقتصادي في البلقان، خاصةً صربيا، كما هو الحال أيضاً في جورجيا وأرمينيا. ومن ثم، لا تريد الصين لروسيا أن تزعزع استقرار تلك المناطق بسبب استثماراتها الاقتصادية الكبيرة في إطار مبادرة الحزام والطريق. وفي المجمل، تريد الصين أن يكون لروسيا سياسة خارجية مستقلة بما لا يضر مصالحها الاقتصادية.

3– تصاعد وزن وتأثير تركيا في الحرب الأوكرانية: أوضح د. راماني أن تركيا قد يكون لها دور في الأزمة في الوقت الحالي، من خلال إظهار التضامن مع أوكرانيا وإظهار مدى قدرتها على الإسهام في دعم الناتو. ومع ذلك فهي تتردد في فرض عقوبات على روسيا. ومن جهة ثانية، تشكل الطائرات المسيرة (الدرونز) أداة مهمة من أدوات التأثير التركي؛ فقد ظهرت هذه الطائرات في منطقة دونباس لأول مرة في نوفمبر 2021؛ حيث تهتم تركيا بتصدير هذه الطائرات إلى أوكرانيا، علاوة على وجود مشاريع للتصنيع المشترك للدرونز معها. وحسب "راماني"، قد تشكل هذه الطائرات تهديداً لروسيا، وخصوصاً أنها أثبتت فاعلية في العمليات العسكرية ضد أهداف روسية في ليبيا وسوريا.

ومن جهة ثالثة، يمكن لتركيا استخدام المضايق البحرية (البسفور والدردنيل) ضد السفن الروسية؛ لمنعها من العبور، وكان يمكن لتركيا أن تستخدم حادث تعرض سفينة تركية لقصف روسي بالخطأ قبالة ساحل أوديسا يوم 24 فبراير الجاري، لتتخذ قرار إغلاق المضايق البحرية، ولكن هذا لم يحدث. وربما يكون هذا الأمر نابعاً من التخوف من دفع هذا القرار إلى استعداء روسيا. وبالرغم من ذلك، لا يتوقع أن تشهد العلاقات التركية الروسية أزمة حادة على خلفية الملف الأوكراني، وخاصةً أن الدولتين لديهما مجموعة من المصالح والتفاهمات المشتركة في بعض الملفات مثل الملف السوري. كما أن تركيا لا تريد فتح جبهة صراع جديدة، لا سيما مع وجود مجالات للتعاون العسكري التركي الروسي. وأخيراً فإن التدخل التركي في أوكرانيا ليس جديداً؛ لأن تركيا شريك مهم في أمن البحر الأسود.

4 – طرح بدائل لاتفاق مينسك لتنظيم علاقات روسيا بأوكرانيا: أوضح المتحدث الرئيسي أن اتفاق مينسك قد انتهى بالفعل. ومن ثم، يمكن القول إن اتفاقية مينسك سقطت، ولن تكون بيلاروسيا ساحة لتفاوض ناجح جديد بين الرئيسين الروسي والأوكراني. وفي هذا الإطار، يبدو الأمر مفتوحاً على سيناريوهات عديدة؛ منها حدوث تفاهم مباشر بين "بوتين" والرئيس الأوكراني "زيلينسكي"، وهو تفاهم قد يحظى بدعم فرنسا وألمانيا. ويمكن عبر هذا التفاهم وضع صيغة جديدة للعلاقات الروسية الأوكرانية، ولكن مع ذلك ستظل هذه الصيغة موضع الكثير من الشكوك، نظراً إلى أن روسيا ستتمسك بعدد من المطالب، مثل الاعتراف بالسيطرة الروسية على دونيتسك ولوجانسك، وغيرها من المطالب التي سيكون من الصعب على أوكرانيا تقبلها؛ ولذا قد لا يكون هناك اتفاق في المستقبل القريب.

5– إعادة الاهتمام بتحليل شخصية "بوتين": تدفع الأزمة الراهنة إلى إعادة الاهتمام بتحليل شخصية الرئيس الروسي "بوتين" وطريقة تفكيره. ويمكن القول إن تحليل شخصية بوتين يكشف عن ثلاث ملاحظات رئيسية؛ أولاها أن الرئيس الروسي مشغول في المقام الأول بخلق إرث تاريخي خاص به، ويمكن أن يعيش لسنوات طويلة؛ فالإجراءات التي اتخذها في السنوات الماضية، سواء ضد جورجيا أو ضم القرم إلى دولته، أو عمليته الحالية في أوكرانيا؛ تغازل أحلام بعض المؤسسات داخل روسيا حول إمكانية استعادة إرث الاتحاد السوفييتي. وترتبط الملاحظة الثانية برغبة "بوتين" في بناء نظام يضمن البقاء والاستمرار. ولعل هذا ما يتضح من محاولات نشره أفكاره، أو ما تعرف بـ"البوتينية"، وإيجاد نظام ولائي داخل أجيال جديدة من النخب العسكرية والسياسية الموالية له، والمتسقة مع أفكاره حول العظمة الروسية ومكانة روسيا ونفوذها العالمي، فيما تنصرف الملاحظة الثلاثة إلى صعود دائرة ضيقة لصنع القرار داخل روسيا، يمكن أن يطلق عليها "الأوليجاركية القومية"؛ فالقرارات – بما في ذلك قرار التدخل العسكري في أوكرانيا – ليست قرارات "بوتين" بمفرده، لكنها مرتبطة بمجموعة من النخب العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تشجع الرئيس الروسي على اتخاذ قرارات بعينها وتدعمه في ذلك.

6– مدى إمكانية تكرار نموذج التدخل العسكري في مناطق أخرى: أشار د.راماني إلى أنه ينبغي عدم المبالغة في ردة الفعل تجاه ما يجري في أوكرانيا؛ فالمسألة ليست مشكلة نظامية، بل مرتبطة أيضاً بعوامل محلية؛ حيث لعبت بعض العوامل داخل روسيا دوراً في تحفيز العملية العسكرية ضد أوكرانيا.وفي هذا الإطار، قد يكون من المبالغة القول إن ما جرى في أوكرانيا سيدفع الصين إلى التدخل في تايوان. صحيح أن هناك بعض التوترات بين الصين وتايوان، لكن هذه التوترات لا تؤشر على إمكانية حدوث تصعيد عسكري مماثل لذلك الذي جرى في أوكرانيا. وأضاف "راماني" أن النموذج الأقرب للتكرار، إذا حدث، سيكون من زاوية إيران، لا من زاوية الصين؛ فقد تؤثر الأزمة الأوكرانية بالسلب على مسار المفاوضات النووية بين إيران والدول الغربية، وهو الأمر الذي قد يدفع طهران إلى التصعيد في المنطقة؛ فالتجارب السابقة تكشف أنه عندما تكون هناك اضطرابات في أوروبا واضطرابات في أسعار النفط تظهر إيران كطرف فاعل في الأحداث من خلال تدخلها في الصراعات الإقليمية.

7– توظيف إيران الأزمة في دعم تحالفها مع روسيا: أظهر الرئيس الإيراني "إبراهيم رئيسي" دعمه للرئيس الروسي بوتين في الاتصال الذي جرى بينهما بعد بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، وهو أمر يتماشى مع طبيعة العلاقات بين إيران وروسيا؛ فإيران أظهرت معارضتها الثورات الملونة في شرق أوروبا، كما أن روسيا دعمت إيران ضد الاحتجاجات الداخلية التي وقعت في السنوات الماضية. علاوة على ذلك، فإن هناك تقارباً بين الدولتين في العديد من القضايا، على غرار الملف السوري، ناهيك عن أهمية روسيا بالنسبة إلى إيران في مفاوضات الاتفاق النووي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إيران لديها أيضاً علاقات مع أوكرانيا؛ ولذا فهي قد تحاول لقيام بدور ما في التهدئة بين الطرفين.

8– احتمال التوسع الروسي في استخدام العملات المشفرة: ذكر المتحدث الرئيسي في الحلقة أن روسيا لديها تاريخ طويل في مجال العملات المشفرة؛ حيث حاولت خلال السنوات الماضية جمع الخبراء بهذا المجال. وفي هذا الإطار، قد تساعد هذه العملات الأثرياء والطبقة الأوليجاركية لتخفيف العقوبات عن طريق الاستعانة بالعملات المشفرة، ولكن مع ذلك فإن البنوك ستعاني كثيراً بسبب العقوبات، وقد تجد الروبل الإلكتروني بديلاً غير مناسب أو غير كافي لمواجهة تلك الخسائر. وبالرغم من ذلك، يظل هناك غموض حول حالة العملات المشفرة في روسيا؛ حيث رفض البنك المركزي اعتماد البيتكوين، كما أن هناك انقسامات بين الكرملين الذي يجد منافع من استخدامه، ومستشاري الرئيس "بوتين" الاقتصاديين الذين يعارضون الأمر.

9– احتمالات تأثر النفوذ الروسي عالميّاً: يُتوقَّع أن تتباين التأثيرات على النفوذ الروسي عالميّاً؛ حيث إن الضغط الأمريكي على روسيا في بعض المناطق مثل سوريا تأثيره محدود. نظراً إلى أن التدخل الروسي في سوريا لا ينطوي على تكلفة كبيرة، وخصوصاً مع تداخل أطراف أخرى في الصراع هناك، فإنه ليس من المتوقع أن يحدث تغير كبير في ديناميات الصراع. ولكن بالنسبة إلى الوجود الروسي في إفريقيا يبدو الوضع أكثر تعقيداً؛ فمن جهة، توجد مجموعة فاجنر بكثافة في بعض الدول الإفريقية، مثل إفريقيا الوسطى. ومع ذلك، فإن الأزمة الراهنة في أوكرانيا قد تنعكس على حضور مجموعة فاجنر هناك، سواء من ناحية التمويل –وذلك إذا تزايد تأثير العقوبات على الأوضاع المالية في روسيا– أو إذا رغبت موسكو في الاستعاضة عن المجموعة بإيجاد علاقات جديدة مع وكلاء محليين. ومن جهة أخرى، قد تنعكس الأزمة الأوكرانية على العلاقات بين روسيا وبعض الدول الإفريقية؛ فجنوب إفريقيا هي الدولة الوحيدة في مجموعة بريكس التي تدين روسيا في هذا الوقت، وهو أمر غير مسبوق، كما أن دولة مثل كينيا يبدو أنها قلقة من الجانب الاستعماري الجديد لروسيا، وكيف يمكن أن ينعكس على إفريقيا إذا تصاعد النفوذ الروسي بها. ولكن مع ذلك، توقع د. راماني ألا يتغير الوجود الروسي في إفريقيا كثيراً.

ختاماً، خلص د. راماني إلى أن الأزمة الأوكرانية سيكون لها تأثير عميق على العلاقات الغربية الروسية؛ لأن العقوبات التي فُرضت على روسيا تعتبر عميقة، وسيكون لها تأثير كبير عليها، وربما يكون لها انعكاس واضح على تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؛ لأن الضغوط الاقتصادية على روسيا قد تعرقل العملية العسكرية، فضلاً عن الضغوط التي قد تأتي من داخل روسيا عبر المجموعات الرافضة للعملية العسكرية. وعلى مستوى الارتدادات العالمية للأزمة، فإنها شكلت ضغوطاً على العديد من الدول التي باتت مُطالَبة بالتفاعل مع الأزمة. وهذا الضغط لا يقتصر فقط على الدول التي تحظى بعلاقات جيدة مع الغرب وكذلك روسيا، ولكنه أيضاً يشمل الدول المعروف عنها التعاون مع موسكو، مثل الصين وإيران؛ فالصين بالرغم من دعمها المعلن للخطاب الروسي في الأزمة، ترى في العملية العسكرية الروسية تهديداً لبعض مصالحها الاقتصادية في شرق أوروبا، كما أن إيران تتخوف من انعكاسات التدخل الروسي في أوكرانيا على الملف النووي الإيراني.

ماذا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؟ (حلقة نقاشية)