ياسمين أيمن

يعتقد المتابع للتصريحات الأمريكية الرسمية المتداولة على مدار العام المنصرم، وتحديداً منذ هجوم السابع من أكتوبر من جانب حماس على إسرائيل، أن واشنطن لا تدعم التصعيد في المنطقة، ولكن بدء إسرائيل في حربها غير المتكافئة على قطاع غزة، ثم توجهها لشن هجمات متفرقة على الضفة الغربية، وتوجهها الآن نحو التصعيد مع حزب الله في الأراضي اللبنانية، وتنفيذها سلسة من الاغتيالات واسعة النطاق ضد الموالين لطهران في منطقة الشرق الأوسط، وداخل طهران نفسها، وعقدها العزم على توجيه هجمات مباشرة لطهران خلال الأيام القادمة، وتوجيهها ضربات ضد الحوثيين في اليمن، وكذا في سوريا؛ يبرهن على أن واشنطن فقدت القدرة على ضبط السلوك الإسرائيلي المتهور الذي يتبناه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. لكن القارئ للتاريخ، والمتعمق في طبيعة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية يدرك جيداً أن إسرائيل ما هي إلا أداة لواشنطن داخل منطقة الشرق الأوسط، وأن واشنطن قادرة على ردع تل أبيب في حال رغبت في ذلك، خاصة أنها تضررت كثيراً بسبب إسرائيل، وزاد الحديث عن تآكل دورها في المنطقة. وفي ضوء ما سبق، يمكن توضيح ملامح تراجع النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وتوضيح تبعات ذلك على منطقة الشرق الأوسط وعلى واشنطن.عوامل التراجع هناك مجموعة من العوامل التي ترسم ملامح تراجع النفوذ الأمريكي داخل منطقة الشرق الأوسط، ويمكن توضيح هذه العوامل فيما يلي:1- الفشل في دفع إسرائيل لإنهاء حرب غزة الخامسة: يبدو أنه بالرغم من طبيعة العلاقات الوطيدة التي تربط واشنطن بتل أبيب، لكن الأولى فشلت في دفع الأخيرة للعدول عن قرارها في استمرار الحرب على قطاع غزة بعد الهدنة المؤقتة في نوفمبر 2023 والتي سمحت بالإفراج عن 100 رهينة لدى حماس، كما فشلت في إنهاء الحصار المفروض، ووقف القصف المستمر على جميع أنحاء القطاع، والوصول لصفقة جديدة تسمح باستعادة الرهائن لدى حركة حماس. فبالرغم من عام من المفاوضات بالتعاون مع قطر ومصر، تتعنت إسرائيل ولم تقبل بإيقاف الحرب حتى القضاء على جميع أفراد حركة حماس أو تأمين خروجهم من غزة، وهو أمر يؤكد عدم انصياع تل أبيب لمطالب واشنطن المعلنة.2- السماح بتوسع رقعة الصراع داخل المنطقة: لم تكن الحرب الإسرائيلية وحدها على قطاع غزة هي السبب الرئيسي في تأكيد تراجع نفوذ واشنطن داخل المنطقة، بل إعطاء واشنطن الإذن لتل أبيب بتوسيع رقعة الصراع تحت ذريعة "الحق في الدفاع عن نفسها"، سامحة بالتعدي على أراضي الجنوب اللبناني، وتوسيع نطاق عمليات استهداف أعضاء حزب الله اللبناني داخل الأراضي اللبنانية وخارجها، والسكوت عن قيام إسرائيل بتفجير أجهزة الاتصال اللا سلكية (بيجر) التابعة لحزب الله، بما أكد أن واشنطن غير قادرة على حفظ السلام والاستقرار داخل المنطقة، أو ربما أشار إلى أن واشنطن ترغب في إعادة رسم خريطة المنطقة.3- الإخفاق في ردع الجماعات المسلحة داخل المنطقة: سمحت الولايات المتحدة لدول أخرى بلعب دور أكثر فاعلية، موضحة أنها لا تفهم طبيعة التفاعلات داخل المنطقة، خاصة أن ضرباتها المتكررة على القوات الموالية لإيران في العراق واليمن وسوريا لم تنجح في ردع تلك الجماعات. وعلى غرار ما فعلت واشنطن في عام 2011 حينما ساهمت في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا، ودفعت ليبيا إلى حافة الاضطرابات والفوضى حتى الآن، كما شجعت العديد من الثورات التي ساهمت في اضطراب منطقة الشرق الأوسط؛ تعيد واشنطن هذا الأمر في الوقت الراهن، مع دعمها المبطن لإسرائيل في مختلف تحركاتها داخل فلسطين ولبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق مستخدمة نفس أسلوب القوة الغاشمة العسكرية.فعلى سبيل المثال، تدعم واشنطن موقف تل أبيب الرافض كلياً لاستمرار وجود حماس داخل غزة، وهو هدف مستحيل الحدوث، ويطيل أمد الحرب بلا جدوى. كما أن الاغتيالات المستمرة لقادة حزب الله والدفع نحو إجراء انتخابات رئاسية في لبنان، أمر لن يتم باغتيال قادة حزب الله فقط، ولكنه يتطلب ترتيبات سياسية داخل لبنان وخارجه من جانب الدول التي تمتلك مصالح داخل بيروت. فضلاً عن شؤون أخرى تتجاهلها واشنطن وتل أبيب، والتي تتمثل في إدراك التوجهات الأيديولوجية لحماس وحزب الله، حيث إن حربهم ضد إسرائيل ليست حرباً على تحرير رقعة جغرافية ولكنها حرب ضد "الصهيونية"، وإن اختلفت معايير وتقييمات حماس وحزب الله، بما يشير إلى أن مقاومة تلك الجماعات لن تتأتى بالقوة العسكرية الغاشمة ولكن بالتوصل لحلول جذرية للقضية الفلسطينية، ووقف التوسع الإسرائيلي الاستيطاني.تداعيات متعددة هناك مجموعة من التداعيات المرتبطة بتراجع النفوذ الأمريكي داخل منطقة الشرق الأوسط، والتي يتلخص أبرزها فيما يلي: 1- صعوبة إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة: تشير تصريحات المسؤولين الأمريكيين الأخيرة إلى صعوبة التوصل إلى أي اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة في الوقت الراهن، حيث يبدو أن نتنياهو يرغب في حرق ورقة تحرير الرهائن، لأن العدد المتبقي من الرهائن لدى قادة حماس في الوقت الراهن أصبح 12 رهينة وفق بعض التقديرات، ومع إطالة أمد الحرب، فمن المتوقع مقتل هؤلاء الرهائن، خاصة أن أماكن تواجد بعضهم تكون بين المدنيين من سكان قطاع غزة.وعلى صعيد آخر، فإن يحيى السنوار زعيم حركة حماس يرفض مسألة خروجه من غزة، بما يعني أن المفاوضات وصلت لطريق مسدود، وهو ما سيستمر إلى فترة، حتى تحدث ترتيبات وتوازنات جديدة تسمح بوقف هذه الحرب، وهو ما ينعكس سلباً على منطقة الشرق الأوسط ككل.2- تهديد أمن الملاحة البحرية في منطقة البحر الأحمر: استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، في ظل اضطراب صورة واشنطن، يشجع على استمرار هجمات مليشيا الحوثي اليمنية على السفن التجارية العابرة لمنطقة البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب الذي يسمح بمرور نحو 15% من إجمالي حركة الملاحة العالمية، وهو ما من شأنه أن يؤثر على استقرار سلاسل التوريد العالمية، كما يضر بأحد أهم ممرات التجارة العالمية.3- حدوث خسائر للديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية القادمة: من المتوقع أن يتسبب الموقف الأمريكي الضعيف تجاه مختلف ملفات السياسة الخارجية داخل منطقة الشرق الأوسط، في خسارة المرشحة الديمقراطية نائبة الرئيس كامالا هاريس لبعض أصوات الناخبين المهتمين بملف السياسة الخارجية خلال الانتخابات الرئاسية القادمة المزمع عقدها في الخامس من نوفمبر، خاصة أن هاريس لم تعرض أفكاراً بديلة عن أفكار الإدارة الراهنة بشأن توجهات الإدارة المتوقعة تجاه مختلف ملفات السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.4- السماح لقوى أخرى بشغل الفراغ الأمريكي في الإقليم: من المتوقع أن تتجه بعض القوى الأخرى المناوئة لواشنطن، وتحديداً الصين وروسيا، لمحاولة شغل الفراغ الأمريكي في الوقت الراهن، وهو أمر ستميل إلى دعمه دول المنطقة بسبب اهتزاز صورة واشنطن الأخلاقية، لأنه على مدار السنوات السابقة، وتحديداً منذ مجيء إدارة بايدن، لم تنجح الإدارة في حل أي مشكلة مستعصية من مشكلات المنطقة، بل إنها سمحت للأوضاع بالتفاقم لتحقيق مصالحها المتمثلة بشكل أكبر في تحجيم النفوذ الإيراني، والذي وإن تحقق في الوقت الراهن سيستمر على المدى الطويل بسبب اقتراب طهران من خطوة امتلاك سلاح نووي رادع سيعيد رسم توازنات القوة داخل المنطقة، وهو أمر ستدركه دول المنطقة العربية، التي سيكون عليها تبني موقف أكثر اتزاناً تجاه السياسة الأمريكية، والتحركات الإسرائيلية في المنطقة، للحفاظ على مصالحها، وعدم جر دول المنطقة كافة نحو صراع طويل الأمد. صورة مشوهةختاماً، يمكن القول إن فكرة الحديث عن منع إسرائيل من توسيع رقعة الصراع داخل المنطقة، دون وضع أي رادع لها، سواء من خلال وقف مبيعات الأسلحة الأمريكية المستمرة، أو وقف معونات الأسلحة، أو وقف الدعم الدبلوماسي الأمريكي لإسرائيل في كافة المحافل الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وتوجيه التهديدات والاتهامات لقضاة المحكمة الذين أدانوا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ربما يعبر عن تناقضات أمريكية، فكيف يمكن الضغط على طرف يشعر بالانتصار نسبياً، على الأقل في الوقت الراهن، دون أن يتم الضغط عليه بأي وسيلة كانت، وهو ما يدلل على أن واشنطن ربما لا ترغب في إنهاء هذه الحرب لتحقيق بعض المصالح داخل المنطقة.ومن الجدير بالذكر أن خسائر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تقف عند الفلسطينيين والإسرائيليين ومنطقة الشرق الأوسط، ولكنها امتدت لواشنطن التي برهنت على تآكل نفوذها في المنطقة، وهشاشة موقفها عند الحكومة الإسرائيلية التي تحصل على مساعدات مستمرة غير مشروطة، كما لا يتم ردعها أو محاسبتها على سياساتها المستمرة في المنطقة، وهو أمر تسبب في خسائر سياسية وأخلاقية لواشنطن، أدت لتشويه صورة واشنطن كدولة راعية لحقوق الإنسان وللقانون الدولي.

كيف كشف التصعيد الإسرائيلي عن تراجع النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط؟