تعرضت الدول الأوروبية في الآونة الأخيرة لإشكالات عديدة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك التداعيات الناجمة عن جائحة كورونا؛ ما أدى إلى تعطل سلاسل الإمداد العالمية، وساهم في ارتفاع أسعار المواد الخام والمكونات الوسيطة وأسعار السلع الغذائية والطاقة؛ وذلك بالتزامن مع الإجراءات المتشددة للحكومات الأوروبية لمواجهة تلك التداعيات من خلال ترشيد الإنفاق العام على الصحة العامة والتعليم وخفض الأجور وتقليص الوظائف العامة وزيادة الضرائب ورفع أسعار الفائدة. لقد أنتجت هذه المعطيات معارضة واسعة النطاق من قبل الطبقة العاملة والنقابات العمالية في القطاعات المختلفة؛ ما دفعها إلى تنظيم عدة إضرابات في العديد من المرافق العامة الحيوية في مختلف الدول الأوروبية، تضمنت قطاعات النقل والسكك الحديدية، والصناعة والصحة العامة، وهي الإضرابات التي أثرت سلباً على أداء تلك القطاعات، وأسهمت بدورها في تعطل البنية التحتية للبلاد وتوقف بعض الإمدادات.

سياق محفز

تشكَّلت في الفترة الماضية ملامح سياق اقتصادي ضاغط اضطلع بدور هام في إكساب الاحتجاجات والإضرابات في المرافق العامة الحيوية المزيد من الزخم؛ حيثشهدت الدول الأوروبية ارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية التي أسهمت في اضطراب سلاسل التوريد العالمية؛ ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الطاقة وارتفاع أسعارها بنسبة 39.2%، وارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 7.5%؛ ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم في منطقة اليورو لتصل إلى نحو 8.1% في مايو 2022؛ ما أسهم في خفض القوة الشرائية لدى المستهلكين بنسبة 5% على الأقل خلال الربع الأول من عام 2022، ومن ثم انخفضت مستويات المعيشة، وتراجع مستوى الطلب في الأسواق فحدث ركود تضخمي.

ومع تفاقم الوضع الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا، وتعطل سلاسل التوريد العالمية، بالإضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية؛ لجأت الدول الأوروبية إلى انتهاج السياسة التشدُّدية من خلال عدة تدابير شملت خفض العجز المالي للحكومات، وزيادة الإيرادات بخفض الإنفاق الحكومي، وزيادة الضرائب، وخصخصة أو تسويق مؤسسات الدول، وخفض برامج الرعاية الاجتماعية بخفض الأجور والمعاشات التقاعدية في القطاع العام، وإلغاء الإعانات، والمزيد من تشديد الإنفاق على الصحة العامة والتعليم.

مظاهر الأزمة

شهدت الدول الأوروبية، في الشهور الأخيرة، حركات متنامية من الإضرابات في العديد من المرافق العامة الحيوية تمثلت في:

1– زيادة الإضرابات في قطاع النقل العام بسبب ارتفاع أسعار الطاقة: انعكس ارتفاع أسعار الوقود ونقص الإمدادات في الدول الأوروبية سلباً على قطاع النقل العام في الدول الأوروبية؛ حيث نظمت اتحادات النقل الكبرى في إيطاليا احتجاجات في منتصف مارس 2022؛ لعدم قدرتهم على توفير تكلفة عمل الشاحنات بعد ارتفاع أسعار الوقود، كما أعلن الاتحاد الوطني لجمعيات النقل الإسبانية، وشركات النقل العاملة لحسابها الخاص والشركات الصغيرة والمتوسطة، في 14 مارس الماضي، عن إضراب استمر نحو 20 يوماً. وبعد إنهاء الإضراب أعلن الاتحاد الوطني أن الإضراب قد يعود قريباً.

2– المطالبة بزيادة الأجور والمعاشات التقاعدية وتحسين ظروف العمل: نظمت نقابة السائقين الألمان إضرابات عدة للمطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل وصرف علاوة كورونا، كما نظم موظفو شركة النقل العام HTM في لاهاي إضراباً ليوم واحد، يوم 2 يونيو الجاري، بتوقف جميع وسائل النقل التابعة للشركة؛ للمطالبة بزيادة الأجور بنسبة 5%؛ من أجل الاحتفاظ بالقوة الشرائية للموظفين. وفي اليونان، نظمت أكبر نقابتين للعمال، تمثلان نحو 2.5 مليون من العاملين في القطاعين العام والخاص، إضراباً عاماً على مستوى البلاد، يوم 6 أبريل الفائت، احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وتقلص الأجور؛ حيث ارتفع تضخم أسعار المستهلكين السنوي في اليونان إلى أعلى مستوى في 25 عاماً إلى 7.2 % في فبراير؛ الأمر الذي تسبب في اضطرابات بوسائل النقل والعبَّارات والمدارس والمستشفيات العامة.

ونظم عمال الحكومة المحلية في أيرلندا الشمالية إضرابات بسبب نقص الأجور، عدة مرات خلال شهري مارس ومايو الماضيين، كما نظمت النقابات العمالية البلجيكية إضرابين لمدة يوم واحد في 22 أبريل 2022 و31 مايو 2022؛ وذلك بإلغاء رحلات القطارات ووسائل النقل العام، وإغلاق مراكز إعادة التدوير في جميع أنحاء البلاد؛ للإعراب عن استيائها العام من شروط العمل في القطاع العام البلجيكي، وارتفاع معدل التضخم وتكاليف المعيشة، ومطالبةً بزيادة الاستثمارات في المعاشات. وتستعد النقابات البلجيكية ليوم آخر من الاحتجاج في 20 يونيو المقبل؛ للتفاوض بشأن قانون "معايير الأجور" في البلاد، الذي يقيد الزيادات في الأجور بنسبة 0.4%، في حين يبلغ معدل التضخم نحو 8.3%.

3– الاعتراض على إصلاحات الوظيفة العامة وتقليص الوظائف: تصاعدت حدة الإضرابات في إسبانيا، خلال الشهور الأخيرة، بسبب فقدان الوظائف التي وافقت عليها النقابات الإسبانية، والتي أسهمت في خسائر كبيرة في الوظائف مع تعديلات طفيفة مماثلة على الخطط الأولية للشركات وتسمح بالتغييرات في ظروف العمل مع دفع تعويضات؛ ما يسهم في فقدان نحو 900 وظيفة مع مكافأة نهاية الخدمة، وإغلاق 124 متجراً. وشملت الإضرابات العمال في فروع البنوك في جميع أنحاء إسبانيا؛ حيث تضمنت الإصلاحات تخفيض أكثر من 12 ألف وظيفة في أربعة بنوك.

وشهدت شركة الطيران الهولندية "كيه إل إم"، في شهر أبريل الماضي، إضراباً عن العمل معارضةً لخطط الاستعانة بمصادر خارجية قد تهدد بفقدان نحو 20% من القوى العاملة؛ حيث تلقت كي إل إم 1.8 مليار يورو من الحكومة مقابل فاتورة الأجور خلال الوباء. وكشرط للحصول على قرض بقيمة 3.4 مليار يورو، خفَّضت الشركة الأجور بنسبة 20%، والتزمت بعدم زيادتها مرة أخرى، في حين تقترح الحكومة الآن خفض 400 مليون يورو إضافية من ميزانية الشركة.

كما دعا الاتحاد الديمقراطي التضامني الفرنسي إلى تنظيم إضراب على مستوى البلاد من 1 إلى 30 يونيو الجاري احتجاجاً على إصلاحات الخدمات العامة الأخيرة، وللمطالبة بزيادة الرواتب. ويشمل التوقف عن العمل الخدمات العامة على المستويين الوطني والإقليمي، وكذلك قطاع الصحة العامة، والشركات المملوكة أو الممولة من الحكومة، والموظفين العموميين المعينين في المؤسسات التعليمية الخاصة، فضلاً عن إضراب الدبلوماسيين نتيجة الإصلاحات العامة الأخيرة وخفض الميزانية الموجهة لوزارة الخارجية.

وفي سياق متصل، أعلن الاتحاد الوطني لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل في بريطانيا، في 21 أبريل الماضي، عن دراسة تنظيم إضراب للسكك الحديدية قد يكون الأكبر في التاريخ الحديث؛ وذلك اعتراضاً على إجراءات مؤسسة شبكة السكك الحديدية لشطب ما لا يقل عن 2500 وظيفة في مجال الصيانة، كجزء من خطة تخفيض الإنفاق المالي بنحو ملياري جنيه إسترليني في وقت تم فيه تجميد رواتب عاملين من مشغلي القطارات. واللافت أن مؤشرات هذا التوجه لم تنقطع؛ ففي يوم 6 يونيو الجاري، أعلنت النقابة الوطنية لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل إضراباً لمدة 24 ساعة أدى إلى إغلاق عدد من محطات المترو في لندن.

تأثيرات سلبية

ينطوي تصاعد الإضرابات في المرافق العامة بالدول الأوروبية على عدد من التأثيرات السلبية الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:

1– تعطل البنية التحتية للبلاد: حيث تؤدي الإضرابات والاحتجاجات المتزايدة إلى تعطل المرافق الحيوية العامة، وتضرر وسائل النقل المحلية والدولية، وتعطل البنية التحتية للبلاد، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اضطرابات كبيرة في تشغيل المكاتب الإدارية الحكومية الوطنية والمحلية، ومرافق الرعاية الصحية العامة، والنقل العام، والخدمات البلدية العامة، وبالتبعية يزيد حالة الاستياء المجتمعي.

2– انعكاسات سلبية على الحكومات: لا يمكن إغفال أن اتساع نطاق الاحتجاجات والإضرابات في المرافق الحيوية بالدول الأوروبية ينعكس بالسلب على صورة الحكومات وشرعيتها؛ إذ إن تعطل المرافق الحيوية يعني – بشكل أو بآخر – تزايد حالة الاستياء المجتمعي، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع تأييد الحكومات من جانب أفراد المجتمع، وخاصةً أن المرافق العامة تعتبر مظهراً من مظاهر سلطة الحكومة وشرعيتها. علاوة على ذلك، فإن استمرار الإضرابات ينتج تكلفة اقتصادية باهظة سترتد في نهاية المطاف على الحكومات.

3– تعطيل سلاسل الإمدادات: إذ تهدد الإضرابات الإمدادات من السلع والمواد الخام وإمدادات المواد الغذائية وصناعة الصلب ونقص المدخلات الوسيطة والمكونات الحيوية لصناعة السيارات، والأدوية والمواد الكيميائية؛ ما أدى إلى مزيج من النقص وتأخير أوقات التسليم، وارتفاع الأسعار في جميع قطاعات سلسلة التوريد؛ حيث يعتمد ما يصل إلى 30% من إجمالي القيمة المضافة الأوروبية على سلاسل التوريد العاملة عبر الحدود؛ إما كمصدر للمدخلات أو كوجهة للإنتاج؛ ما يؤدي إلى مليارات الدولارات من الخسائر.

4– تفاقم الخسائر الاقتصادية: حيث تُفضي الإضرابات المستمرة إلى تفاقم الخسائر الاقتصادية؛ فوفقاً للقطاع الاستهلاكي في بلجيكا، يمكن أن تسفر الإضرابات لمدة يوم واحد في قطاع النقل عن خسائر بنحو 600 مليون يورو وفقدان نحو 10 آلاف وظيفة، فيما أعلنت شركة النقل العام في لاهاي عن خسارة الشركة نحو ربع مليون يورو إذا توقفت جميع حافلات الترام والحافلات ليوم واحد.

وتشير بعض التقديرات إلى إمكانية أن تصل تكلفة تعطيل سلسلة التوريد في منطقة اليورو خلال الفترة 2022–2023 إلى 242 مليار دولار (2% من الناتج المحلي الإجمالي) أو 920 مليار دولار (7.7% من الناتج المحلي الإجمالي) في حال استمرار الإضرابات وتصعيدها بوتيرة أكثر حدة، ومن ثم سوف تتأثر المؤشرات الاقتصادية الرئيسية مثل معدلات التضخم وثقة المستهلك والنمو الاقتصادي سلباً بتلك الإضرابات، وهي المؤشرات التي تأثرت بالفعل بانعكاسات الوباء، والحرب الروسية الأوكرانية.

أنماط الاستجابة

في إطار تصاعد حدة الإضرابات، شرعت بعض الحكومات الأوروبية في اتخاذ بعض الإجراءات لتهدئة الأوضاع الداخلية، من خلال:

1– دعم أسعار الوقود عبر الاكتفاء الذاتي: فعلى سبيل المثال، خصصت فرنسا نحو 2.18 مليار دولار لدعم أسعار الوقود، ودفعت مخصصات دعم الوقود الفرنسية – التي بدأ سريان العمل بها مطلع شهر أبريل – نحو خفض أسعار البنزين والديزل بمقدار 0.16 دولار أمريكي للتر الواحد، فيما خفضت الحكومة الأيرلندية رسوم استهلاك البنزين بنسبة 20%، والديزل بنسبة 15%.

2– رفع الحد الأدنى للأجور: رفعت حكومة المحافظين اليونانية الحد الأدنى للأجور بنحو 2% إلى 663 يورو في يناير الماضي، وتعهدت بزيادة ثانية بدءاً من مايو الماضي، لكنها لم تنفذ. وأعلنت شركة النقل العام HTM في لاهاي، عن رفع الأجور بنسبة 3.1% خلال العام الجاري، وفي بريطانيا قدمت جمعية الحكومة المحلية عرضاً لزيادة الأجور بنسبة 1.5%، وما يصل إلى 2.75% لمن هم في أدنى درجات الأجور، وقد تم رفضه من قبل اتحاد العمال؛ لانخفاض القيمة الحقيقية لمعدل الزيادة عن معدلات التضخم، فيما قَبِل عمال التصنيع الجوي في المملكة فك الإضراب مقابل عرض الأجور الجديد بنسبة 8.6% على مدى 13 شهراً ومبلغ مقطوع بنسبة 5.1%، بالإضافة إلى إجازة يوم إضافي في عامي 2023 و2024.

3– رفض بعض الحكومات التجاوب مع مطالب العمال: ولعل النموذج الأبرز على ذلك الحكومة الألبانية التي تمسكت بفرض الضرائب الإلزامية على المنتجات النفطية رغم اتخاذها إجراءات عدة على الصعيد الاجتماعي لتخفيف حدة الاحتجاجات؛ ما اعتبرها المحتجون خطوة غير كافية لخفض أسعار الوقود. فيما أعلنت الحكومة البلجيكية علناً، رداً على الإضراب، أنه لا يمكن زيادة الأجور أو تخفيض الضرائب، وعدم مقدرتها اتخاذ أي تدابير لحماية حياة العمال أو دعم مستويات معيشتهم. وبررت الحكومة ذلك بأن زيادة رواتب العاملين في القطاع العام ستؤثر سلباً على النمو الاقتصادي للدولة؛ ما قد يؤدي إلى ارتفاع وتيرة الإضرابات العامة في الدولة.

إدارة المخاطر

خلاصة القول: يبدو أن استمرار الأوضاع الاقتصادية العالمية الناجمة عن جائحة كورونا وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، سيُرجِّح احتمالية مواصلة ارتفاع معدلات التضخم السائدة، وارتفاع الأسعار ونقص الأجور؛ ما يسهم في تنامي حدة الإضرابات في العديد من المرافق الحيوية للدول الأوروبية، على الرغم من التأثيرات السلبية التي خلفتها الإضرابات وجهود بعض الدول الأوروبية لاحتوائها.

وقد أظهر تزايد الإضرابات القوة الاجتماعية للطبقة العاملة في الاقتصادات الأوروبية، ومن ثم يجب على الحكومات الأوروبية اتخاذ عدة تدابير عاجلة لمواجهة تصاعد تلك الإضرابات أو تكرارها، سواء على مستوى الحكومات منفردة، أو اتخاذ موقف مشترك على مستوى دول الاتحاد الأوروبي، من خلال تخفيف حدة الآثار السلبية التي يعاني منها المواطنون، ومحاولة زيادة الإيرادات من خلال التوجه نحو دعم الإنتاج المحلي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع والخدمات؛ لتقليل فاتورة الواردات، كما يجب على الحكومات إدارة المخاطر بأسلوب استباقي وتعزيز المرونة من خلال بناء سلاسل توريد ذكية ومرنة واعية بالمخاطر وقابلة للتكيف ومنخفضة التكاليف؛ لضمان توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، فضلاً عن اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير الاحتياجات الاجتماعية الأساسية، بما في ذلك الغذاء والأدوية والوقود للعمال.

وبدورها، يجب على النقابات العمالية إنشاء مسار مختلف لتنسيق جهودها في مختلف القطاعات والصناعات والبلدان؛ للمطالبة بحقوقها دون الإخلال بالوضع الاقتصادي للدول، بتطوير إطار عمل لأشكال جديدة من المنظمات للعمال في القطاعات المختلفة وأماكن العمل على نطاق دولي، لتكون وسيلة يمكن من خلالها للعمال في جميع أنحاء العالم تبادل المعلومات وتنظيم الجهود للمطالبة بحقوقهم دون الإضرار بعجلة الإنتاج.

لماذا تصاعدت إضرابات المرافق الحيوية العامة في أوروبا؟