كرم سعيد

أعلن تنظيم الخدمة، ووسائل إعلام تركية، في 21 أكتوبر 2024، وفاة الداعية التركي فتح الله جولن مؤسس "حركة الخدمة"، في ولاية بنسلفانيا الأمريكية التي يقيم فيها منذ عام 1999، والمتهم بتدبير انقلاب 2016. وقد تحمل وفاة فتح الله جولن الذي تصنفه تركيا إرهابياً، العديد من التداعيات على السياسات التركية محلياً وخارجياً، لا سيما أن نهاية جولن تشكل نقطة تحول بارزة، سواء في مسار المواجهة مع الحركة، أو في علاقات تركيا مع القوى الإقليمية والدولية التي تنشط فيها حركة الخدمة، كما يُتوقع أن تفرض وفاة جولن تداعيات مباشرة، سواء على تماسك الخدمة من الداخل، وعلى وجودها، وكذلك على نمط تفاعلاتها مع المعطيات الجديدة التي ستنتج في مرحلة ما بعد جولن. تأثيرات محليةيرجح أن تسفر وفاة جولن عن مجموعة من التداعيات السياسية والاجتماعية على النظام التركي خلال المرحلة المقبلة، ويمكن بيانها على النحو التالي:1– تراجع قدرة أردوغان على تبرير الأزمات المحلية: لا تستبعد اتجاهات عديدة أن تخصم وفاة جولن، الذي يمثل محور حركة الخدمة وواجهتها الرئيسية، من قدرة الرئيس رجب طيب أردوغان على مواجهة الانتقادات والضغوط الداخلية التي يتعرض لها، خاصة فيما يخص استمرار التراجع الحادث في مستويات المعيشة، ومحاصرة أنشطة المعارضة السياسية في الداخل التركي؛ إذ اعتاد أردوغان، خلال السنوات التي خلت، توظيف حركة خدمة في تبرير جانب من الأزمات المحلية التي تعانيها تركيا، واستثمار بعض أنشطة حركة الخدمة في حشد الداخل لمصلحة سياسات حزب العدالة والتنمية، جنباً إلى جنب تشويه الصورة النمطية للخصوم المحليين برغم إدانتهم جماعة جولن وتوجهاتها الأيديولوجية.2– تحييد ضغوط أنقرة على الدول الأوروبية: وفقاً للعديد من التقديرات، فإن وفاة جولن قد تساهم في تحييد الضغوط التركية على الدول الأوروبية في الملفات الخلافية؛ إذ يتوقع أن تتراجع مركزية وأنشطة الخدمة في الدول الأوروبية، وبخاصة في ألمانيا والنمسا خلال المرحلة المقبلة، كما يرجح أن تلجأ بعض عناصر الخدمة إلى ملاذات بديلة؛ وذلك على خلفية ارتباك محتمل داخل الحركة، قد يؤثر على التمويل المخصص لمجموعات الحركة في أوروبا، وهو ما يعني تراجع حجج أنقرة للضغط على الأنظمة الأوروبية لملاحقة الحركة وعناصرها.3– تآكل زخم ذكرى انقلاب عام 2016: مثَّلت أحداث انقلاب صيف 2016 إحدى الأدوات الرئيسية للسياسة الداخلية التي يتبناها الرئيس رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة؛ وارتبط التوظيف المتصاعد لذكرى الانقلاب في السياسة التركية بعدد من المحفزات الرئيسية؛ منها إعادة تأكيد قوة النظام الحاكم، وترسيخ صورته الذهنية بهدف تعزيز نفوذه الداخلي، وإحكام السيطرة على الهياكل الأمنية في البلاد. وتكفي هنا الإشارة إلى إطلاق مسمى "ذكرى يوم الديمقراطية والوحدة الوطنية" على أحداث الانقلاب.كما يحرص أردوغان على توظيف ذكرى الانقلاب لحشد الداخل التركي خلف سياسات العدالة والتنمية؛ فعلى سبيل المثال، قال أردوغان عشية الاحتفال الأخير بذكرى الانقلاب في 15 يوليو 2024، إن "تصدي الجماهير لمحاولة الانقلاب هو أعظم ملحمة سطرها شعبنا بعد حرب الاستقلال"، وأضاف: "على غرار ما حدث في حرب الاستقلال، أنقذت عزيمة الشعب وتصميمه استقلال الأمة ليلة 15 يوليو"، بيد أن وفاة جولن قد تُفقِد يوليو 2016 بريقه، لا سيما أن جولن، وبقاءه في بنسلفانيا كان محور خطاب أردوغان في يوم الذكرى.4– عودة الجدل الداخلي حول حركة الخدمة: بالرغم من مساعي الرئيس التركي وحكومات العدالة والتنمية طوال السنوات الماضية إلى استئصال نفوذ وتأثير حركة الخدمة في المجتمع التركي من خلال فرض المزيد من القيود والمراقبة، فإن وفاة جولن، بعد معاناة شديدة مع المرض، ربما تعيد زخم حركة الخدمة في الشارع التركي، وتخلق مساحات معتبرة من التعاطف مع أنصاره بعد وفاته، خاصة أن جولن أدان عملية انقلاب صيف 2016، ناهيك عن عدم تقديم الحكومة التركية دليلاً مقنعاً على تورطه في الانقلاب.ويشار إلى أن جولن لا يزال يتمتع بسيرة حسنة في أوساط قطاعات شعبية وطبقات دينية واسعة في تركيا، كما توفر الصدامات الأيديولوجية بين حزب العدالة والتنمية والتيار العلماني ميزة نسبية للتيارات الصوفية في تركيا، ومنها حركة الخدمة. ويغذي هذا السيناريو التراجع الحادث في مؤشرات الاقتصاد التركي، ومستوى المعيشة؛ حيث كانت حركة الخدمة، برغم طابعها الدعوي، تمتلك استثمارات ضخمة في مجال الأعمال والعيادات الطبية والمدارس التعليمية، والخدمات الاجتماعية، التي كان يتم تقديمها بأسعار رمزية.ارتدادات تنظيميةثمة العديد من الارتدادات المحتملة على تنظيم الخدمة بعد وفاة جولن، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– إشكالية خلافة جولن داخل الحركة: وفقاً للعديد من التقديرات، قد تشهد حركة الخدمة معضلة كبيرة وصراعاً بشأن الانتقال إلى قيادة جديدة بعد وفاة جولن، خاصةً قيادة هياكل الجماعة في أوروبا والولايات المتحدة. ويغذي هذا السيناريو، وجود نزاعات داخل الخدمة خلال الآونة الأخيرة، ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة بعد تدهور صحة "فتح الله جولن"؛ حيث ظهرت تكتلات مختلفة داخل الحركة بسبب الصراع على القيادة، منها مجموعة مصطفى أوزجان رئيس "مجموعة شركات كيناك" ومدير أموال المنظمة، ومجموعة بربروس كوجاكورت المسؤول عن نشاطات الحركة الخارجية.&nbsp;2– انشقاق عناصر من حركة الخدمة: من المُتوقع خروج مجموعات من حركة الخدمة بعد وفاة جولن؛ وذلك بسبب الصراعات الداخلية، ناهيك عن احتمال حدوث خلل في توفير الدعم المالي اللازم للمجموعات التابعة للحركة في بعض الدول، وهو ما قد يدفع هذه المجموعات للانضمام إلى كيانات دعوية بديلة، أو ربما يتجه بعضها للتفكير في العودة إلى تركيا، وتسليم أنفسهم للأجهزة الأمنية، والإقرار بتورط حركة الخدمة في انقلاب صيف 2016؛ وذلك في محاولة للاستفادة من قانون "الندم" الذي استحدثته حكومة العدالة والتنمية بعد الانقلاب، الذي ينص على تسليم المتورطين في الانقلاب أو الداعمين له أنفسهم والاعتراف بالتهم مقابل تخفيف العقوبة.بالتوازي مع ذلك، ربما تتجه بعض عناصر الحركة إلى تعديل اتجاهاتها أو الاكتفاء بأن تعمل مُنفردة في الدول التي تعيش فيها بأفكار حركة الخدمة ومبادئ جولن، لكن من دون الالتزام بالإطار المؤسسي للحركة، الذي يتوقع أن يواجه مزيداً من الأزمات الحادة بعد وفاة جولن.3– تراجع حضور الحركة على المستوى العالمي: ترجح كل المؤشرات أن حركة الخدمة سوف يتراجع حضورها الجغرافي، وخاصةً في المناطق التي كانت تمثل مراكز لأنشطتها، مثل آسيا الوسطى وأفريقيا بعد وفاة جولن، وأوروبا وأمريكا. ولعل النزاع المبكر بين قيادات الجماعة على أصول وممتلكات الخدمة قد تكون خير دليل على ذلك. ويشار إلى أن جماعة الخدمة تحقق دخلاً سنوياً يبلغ، بحسب بعض التقديرات، ما بين 200 و250 مليون دولار من المدارس الخاصة في الولايات المتحدة وحدها. إضافة إلى ذلك، تمتلك الجماعة عقارات وممتلكات أخرى في أوروبا وبعض دول أفريقيا وآسيا، تجلب عوائد مالية.4– التوجُّه نحو لا مركزية عمل الحركة: اتسمت إدارة حركة الخدمة بالمركزية الشديدة في عهد جولن الذي كان يحظى بكاريزما وحضور طاغٍ بين أتباعه، ونفوذ معتبَر في قطاع واسع من دول العالم، وخاصةً في أوروبا والولايات المتحدة، إلا أن وفاته وتصاعد الاضطرابات الداخلية في الحركة قد تدفع نحو التوسع في الإدارة اللامركزية خلال المرحلة المقبلة؛ حيث تصبح كل مجموعة في كل بلد تنظيماً مستقلاً، وربما لا يملك أي زعيم جديد للخدمة، إذا ما تم التوافق عليه، فرض إرادته على هذه المجموعات، خصوصاً في ظل تصاعد حدة الاستقطاب بين القيادات الرئيسية في الجماعة، وظهور مجموعات ومجموعات مضادة خلال الآونة الأخيرة، وسعي كلٍّ منها إلى فرض رؤيته وهيمنته على توجهات الخدمة ومساراتها المستقبلية. وتأسيساً على ما سبق، يمكن القول إن وفاة جولن قد يترتب عليها تأثير كبير على التنظيم المركزي بصفة عامة، وعلى الأفرع التابعة للتنظيم، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة أو آسيا وأفريقيا.ختاماً، يمكن القول إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن وفاة جولن سوف تفرض معطيات جديدة، سواء فيما يتعلق بتوظيف الرئيس التركي لحركة الخدمة داخلياً للتحايل على بعض التحديات التي تواجهه – لا سيما أنه يصنف جولن وجماعته ضمن الإرهابيين، فضلاً عن تحميله إياها المسؤولية عن تدهور جانب من الأوضاع السياسية والأمنية بالبلاد – أو فيما يتعلق بالمسارات التي سوف تتجه إليها حركة الخدمة، سواء فيما يتصل بتماسك التنظيم أو طبيعة نشاطه.

ما مستقبل حركة الخدمة بعد وفاة "جولن"؟