د. منى سليمان

أشارت تقارير في نهاية يناير 2025 إلى أن شركة TAIS لبناء السفن في تركيا تسعى إلى الحصول على عقد بيع أربع فرقاطات تخطط البحرية الملكية التايلندية، وهي التقارير التي تعكس اهتمام أنقرة المتواصل بالتواجد في منطقة الهندوباسيفيك. وكانت تركيا قد طرحت مبادرة "آسيا الجديدة" في عام 2019 لتقدم رؤيتها لتطوير تعاونها مع دول الإقليم، وتركز على التوسع الاقتصادي التركي بعيداً عن جوارها المباشر بالشرق الأوسط نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ كجزء أساسي لتنويع سياستها الخارجية، ولمعالجة العجز التجاري بين أنقرة ودول الإقليم الذي يأتي لصالح الأخيرة، ومنذ ذلك الحين تتخذ خطوات فاعلة لتنفيذ المبادرة، حيث تعزز تعاونها مع دول الإقليم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهو ما سيعود بالنفع عليها. بيد أن تركيا ستواجه عدداً من التحديات لتصبح دولة فاعلة في "الهندوباسيفيك"، أبرزها عدم الاتصال الجغرافي معه، وبروز الخلافات بينها وبين الدول الرئيسية بالإقليم كالهند والصين، وتصاعد حدة التنافس الإقليمي والدولي "بالهندوباسيفيك".الاهتمام التركياعتمدت السياسة التركية خلال السنوات الأخيرة على عدد من الأدوات لزيادة حضورها في منطقة الهندوباسيفيك، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:1- طرح استراتيجية تركية للتواجد بمنطقة الهندوباسيفيك: كشفت أنقرة في أغسطس 2019، عن رؤيتها للتعاون مع إقليم "الهندوباسيفيك" من خلال "مبادرة آسيا الجديدة" لتعزيز علاقاتها مع دول رابطة دول جنوب شرق آسيا والدول الآسيوية، وكان لها أربع ركائز هي (تحسين العلاقات بين الدول، وتوسيع التجارة في القطاع الخاص، وتوسيع التعاون الأكاديمي، وتعزيز التفاعل بين المجتمعات)، وعينت سفيراً منسقاً للمبادرة. وتأتي المبادرة في إطار سعي أنقرة لصوغ سياسة خارجية متعددة الأبعاد وتنويع شركائها الاقتصاديين.2- تزايد التحركات السياسية التركية: حرصت تركيا على تعزيز تواجدها السياسي وتكثيف تحركها الدبلوماسي بالإقليم حتى قبل طرحها للمبادرة، حيث استضافت إسطنبول اجتماع وزراء خارجية تركيا وجزر المحيط الهادئ عام 2008، واجتماع دول الجزر الصغيرة النامية بالمحيط الهادئ عام 2014. وفي يوليو 2020، عقد اجتماع ضم وزراء خارجية (تركيا، المكسيك، إندونيسيا، كوريا الجنوبية، وأستراليا) لبحث التعاون المشترك، كما شاركت أنقرة في "منتدى جزر المحيط الهادئ" و"منظمة شنغهاي للتعاون" كشريك للحوار، كما توصف العلاقات بين تركيا ودول (الصين، اليابان، إندونيسيا، كوريا، ماليزيا، وسنغافورة) بأنها "شراكة استراتيجية"، فضلاً عن التنسيق بين تركيا ودول الإقليم حول القضايا المعنية (حقوق الإنسان، القضية الفلسطينية) بالمنظمات الدولية كالأمم المتحدة والتكتلات الأخرى كمجموعة العشرين، كما تتعاون أنقرة مع الدول الإسلامية بالإقليم من خلال (منظمة التعاون الإسلامي، ومجموعة الدول الثماني النامية). جدير بالذكر أن أنقرة لها 15 سفارة بدول الإقليم، ويعد هذا رقماً مرتفعاً نظراً للتباعد الجغرافي بينها.3- دعم الروابط بين تركيا ودول الهندوباسيفيك: حصلت تركيا في نوفمبر 2018 على صفة "شريكة حوار" لرابطة الدول المطلة على المحيط الهندي (IORA)، ورحبت أنقرة بذلك لأنه سيعمل على تعزيز علاقاتها بدول المحيط الهندي التي تعد جزءاً من إقليم "الهندوباسيفيك" وتتمتع بإمكانات اقتصادية وموارد طاقة ومواد خام متنوعة ومتعددة يمكن تعزيز الاستفادة المتبادلة منها.كما تعمل أنقرة على إنشاء تحالفات ثنائية أو ثلاثية بينها وبين دول الإقليم، ومنها التحالف الثنائي مع باكستان الذي بدأ عام 2019 نظراً لأهميتها الاستراتيجية بجنوب آسيا والمحيط الهندي، والتوافق بالسياسة الخارجية للدولتين، حيث تدعم أنقرة الحق الباكستاني بإقليم كشمير، وتحالف "الإخوة الثلاثة" الذي يضم (تركيا، باكستان، أذربيجان)، وشهد ارتفاع التبادل التجاري بينهم، وتنفيذ تدريبات عسكرية سنوية مشتركة.4- الارتقاء بالتعاون الاقتصادي المتبادل: زادت التجارة الثنائية بين تركيا ودول الإقليم مجتمعة ليصبح (75 مليار دولار أمريكي) عام 2021. ووقعت تركيا اتفاقيتي تجارة حرة مع (كوريا الجنوبية)، وتعد الصين أكبر شريك تجاري آسيوي لتركيا، وتشارك في عدد من مشروعات البنية التحتية لأنقرة كما انضمت الأخيرة لمبادرة "الحزام والطريق"، وتشارك شركات من كوريا الجنوبية واليابان بمشاريع البنية التحتية التركية، ومنها (جسر كاناكالي 1915، نفق مرمراي). من جهة أخرى، بلغ حجم التجارة الثنائية بين الهند وتركيا عشرة مليارات دولار أمريكي عام 2021، وتعملان على توقيع اتفاقية تجارة حرة، أو "شراكة اقتصادية شاملة" بينهما، وعام 2024 أصبحت الهند ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا في شرق آسيا بعد الصين، في المقابل بدأت شركات تركية مثل (بيكو) الاتجاه للاستثمار في تايلند وفيتنام والهند.5- تعزيز التعاون الاقتصادي مع دول "الآسيان": تُولِي تركيا أهمية خاصة لدول "الآسيان" حيث انضمت تركيا لمعاهدة الصداقة والتعاون لرابطة دول "الآسيان" عام 2010، وأصبحت عضواً في "حوار التعاون الآسيوي" عام 2013، مما ساهم في تعزيز تعاونها الاقتصادي مع دول الرابطة العشر، ووقعت أنقرة مع الرابطة "الاتفاقية الاستراتيجية الثنائية بين الحكومة والجهات الفاعلة في مجال الأعمال" عام 2022، كما أبرمت تركيا اتفاقيتين للتجارة الحرة مع (سنغافورة وماليزيا) عامي 2015 و2017 على التوالي، وتسعى لإبرام اتفاقية مماثلة مع (إندونيسيا، وتايلند). وتتمتع سنغافورة وتركيا بتجارة ثنائية تزيد على مليار دولار أمريكي، وتساهم شركات مقاولات تركية في مشروع بناء عاصمة جديدة بإندونيسيا، ووضعت أنقرة وبانكوك خطة عمل مشتركة للفترة (2023-2028) لإعلان الشراكة الاستراتيجية بينهما عام 2027، وشكلت إندونيسيا وتركيا مجلساً استراتيجياً عام 2022 لمناقشة مختلف القضايا الاستراتيجية الثنائية والإقليمية والمتعددة الأطراف بشكل منتظم.6- تقديم المساعدات الإنسانية: قدمت تركيا مساعدات إنسانية متعددة لدول "الهندوباسيفيك" من خلال الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)، خاصة خلال فترة تفشي فيروس كورونا حيث قدمت المعدات الطبية لعدة دول بالإقليم. وفي عام 2021، ساهمت أنقرة بدعم مالي "لصندوق المرونة في المحيط الهادئ" الذي تم إنشاؤه ضمن منتدى جزر المحيط الهادئ من أجل معالجة الآثار السلبية لتغير المناخ على دول جزر المحيط الهادئ، وخلال الفترة (2011-2024) قدمت نحو مليار دولار كمساعدات إنسانية ودعم اقتصادي للصومال، كما تقدم دعماً مستمراً في مجالات مختلفة تتراوح من الصحة والتعليم والبنية الأساسية للنازحين من "الروهينجا" بمخيماتهم في بنجلاديش قدرت بنحو (70 مليون دولار أمريكي).7- تزايد صور التعاون العسكري: تسعى أنقرة، بحسب تقرير لإنتلجنس أون لاين في يناير 2025، للحصول على عقد مع قوات البحرية في تايلند لتصنيع أربع فرقاطات لها خلال عامي 2026 و2027 وهو ما سيمثل فرصة لأنقرة لتعزيز تعاونها العسكري مع تايلند، كما يمكن لأنقرة الترويج لتصدير المسيرات التركية (بيرقدار) التي صدرت لأكثر من 30 دولة خلال السنوات الخمس الماضية، وكان هناك تعاون عسكري سابق بين أنقرة ودول الإقليم أبرزه التعاون بين أنقرة وجاكرتا لتطوير "دبابة تايجر بي تي بينداد" الإندونيسية ولتطوير مركبة القتال للمشاة (IFV) بين FNSS من تركيا وPT Industry، والتعاون بينهما لتطوير برمجيات الدفاع اللا سلكي. كما أبرمت تركيا عدة صفقات للسلاح للجيش الإندونيسي، وباعت تركيا طائرات بدون طيار من طراز (TB2) إلى جزر المالديف، وطرادات تركية لماليزيا.تحديات مستقبليةتعد التحركات التركية في إقليم "الهندوباسيفيك" مثمرة وتحقق أهداف مبادرة "آسيا الجديدة"، بيد أن هناك عدداً من التحديات المستقبلية التي ربما تعيق تطورها هي:1- الصعوبات التنفيذية لاستراتيجية "آسيا الجديدة": رغم ترحيب دول الإقليم بالتعاون مع تركيا ولا سيما الاقتصادي والعسكري الذي يوفر بدائل مناسبة للمنتجات العسكرية الأمريكية والأوروبية مرتفعة الثمن، كما أنه يقدم فرصة للتعاون بعيداً عن حالة الاستقطاب الحاد بين بكين وواشنطن وخلال ولاية الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" سيتصاعد وهو ما يقدم فرصة لأنقرة لأن دول الإقليم سترغب في تعزيز التعاون مع أنقرة بعيداً عن ضغوط بكين وواشنطن؛ إلا أن هذا ربما يعرض أنقرة لضغوط أمريكية حال تعارضت المصالح بين أنقرة وواشنطن، كما أن البعد الجغرافي بين الطرفين ولا سيما مع الدول الصغيرة والجزرية بالمحيطين سيمثل أحد الصعوبات لتعزيز التعاون بينهما. من جهة أخرى، يجب على أنقرة استكمال اتفاقيات التجارة الحرة مع دول الآسيان التي ما زالت متعثرة.&nbsp;2- الخلافات التركية الهندية: عقد بين الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" ورئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" عدة لقاءات مباشرة، إلا أن ذلك لم يُنهِ الخلافات بمسار السياسة الخارجية بين الدولتين، حيث تتحالف تركيا مع باكستان وانتقدت إلغاء الهند للمادة الـ(370) من الدستور التي كانت تكفل الحكم الذاتي لإقليم كشمير وجامو، وهو ما دفع الهند لإلغاء عطاء بقيمة 2.3 مليار دولار مع شركة "أناضول شيبيارد" التركية، لبناء السفن من أجل مساعدة شركة هندية في بناء خمس سفن لدعم الأسطول الهندي، هذا فضلاً عن الدعم التركي لأذربيجان مقابل الدعم الهندي لأرمينيا بحربهم خلال السنوات الماضية التي انتهت بانتصار باكو، كما عززت الهند تعاونها الاقتصادي والعسكري مع قبرص واليونان ما أثار حفيظة أنقرة، فضلاً عن التنافس بينهما في أفغانستان ودول آسيا الوسطى، وهذه الخلافات تدفع نيودلهي للضغط على الدول الصفيرة بالهندوباسيفيك التي يمتد نفوذها إليها لتبتعد عن التعاون مع أنقرة.3- فتور العلاقات التركية الصينية: رغم ارتفاع حجم التبادل التجاري بين أنقرة وبكين، إلا أن هناك فتوراً في العلاقات بينهما برز عندما أرجأ الرئيس الصيني "شي جين بينغ" زيارته لأنقرة أكثر من مرة، حيث تدعم أنقرة قضية "الأويغور" المتواجدين في "تركستان الشرقية" (حيث تتهم بكين باضطهاد المسلمين الأويغور في المقاطعة) وتقدم لهم أنقرة مساعدات إنسانية مستمرة، كما تتنافس أنقرة وبكين في منطقة آسيا الوسطى وأفغانستان والقرن الأفريقي مما يعرقل تعزيز التعاون بينهما، وهذا ينعكس على التعاون التركي "بالهندوباسيفيك"، حيث تؤثر بكين على عدد من دول الإقليم وربما تضغط عليها لتقليص تعاون الأخيرة مع أنقرة.&nbsp;4- التنافس الإقليمي والدولي في منطقة الهندوباسيفيك: تضم منطقة "الهندوباسيفيك" عدداً من القوى الإقليمية الكبرى المتنافسة (الصين، الهند، اليابان)، فضلاً عن مساعي الولايات المتحدة الامريكية لبسط نفوذها على المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من خلال تنفيذ سياستها عبر إقامة منطقة "حرة مفتوحة مزدهرة" بالهندوباسيفيك، بالإضافة للنفوذ الفرنسي والبريطاني من خلال الجزر التابعة لهم بالإقليم، فضلاً عن مساعي أستراليا لتعزيز تعاونها مع الدول الجزرية لمواجهة النفوذ الصيني، ولا تغيب روسيا عن هذا التنافس، حيث أعلنت عزمها تعزيز تعاونها الاقتصادي وتواجدها العسكري بالإقليم، مما يعرقل جهود أنقرة لتنفيذ مبادرتها والتنافس مع كافة تلك القوى.مما سبق، نرى أن تركيا تعتمد على سياستين في علاقاتها بدول الهندوباسيفيك؛ الأولى "البراجماتية" القائمة على تحقيق المصالح رغم الخلافات السياسية مثل علاقاتها مع الهند والصين. والثانية الشراكة الاستراتيجية التي تتضمن التعاون الاقتصادي والعسكري مثل علاقاتها مع (باكستان، تايلاند، ماليزيا) وتسعى لتطبيق تلك السياسة على سائر دول الإقليم. ورغم الاهتمام التركي المبكر بالإقليم عبر وضع مبادرة "آسيا الجديدة" وتعزيز الروابط الاقتصادية والعسكرية بدول الإقليم، إلا أن التواجد التركي به ما زال في مراحله الأولى ويحتاج المزيد من التطوير والانتشار في كافة دول الإقليم لتصبح تركيا دولة فاعلة به، وهذا يواجه عدداً من التحديات أبرزها صعوبة التواصل الجغرافي بين أنقرة والإقليم، والخلافات بين أنقرة وأبرز دوله (الهند، الصين)، والتنافس الإقليمي والدولي الحاد به، حيث ستعرقل القوى المؤثرة به التواجد التركي هناك.

ما فرص نجاح تركيا في زيادة وجودها بمنطقة الهندوباسيفيك؟