إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

انتهت فعاليات المؤتمر العام الثامن لحزب العدالة والتنمية التركي، الذي عُقد في 23 فبراير 2025، بانتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً للحزب لدورة جديدة وللمرة التاسعة على التوالي، بعدما حصل على 1547 صوتاً من إجمالي 1607 مندوبين عن الولايات التركية الــ81. واكتسبت انتخابات الحزب هذه المرة أهميةً بالغةً؛ ليس فقط لأنها تتزامن مع مساعي حكومة العدالة والتنمية إلى إدخال تعديلات دستورية تسمح للرئيس التركي بإعادة الترشح خلال عام 2028، بل لكونه يأتي بعد خسارة الحزب الانتخابات المحلية التي أجريت في مارس 2024، وحل فيها الحزب ثانياً، كما يتزامن المؤتمر مع تطورات إقليمية ودولية غير مسبوقة، من أهمها سقوط النظام السوري، وعودة ترامب إلى السلطة.سياقات متباينةجاء المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية التركي وسط سياقات محلية وإقليمية متباينة، وهي السياقات التي انعكست على جلسات المؤتمر وملفات النقاش، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:1– تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية: شهدت الآونة الأخيرة تراجعاً لافتاً في الرصيد التقليدي لحزب العدالة والتنمية. وهذا التراجع يمكن الاستدلال عليه من خلال نتائج الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، وأبرزها الانتخابات المحلية التي أُجريت في مارس 2024، وانتهت بتصدر حزب الشعب الجمهوري للنتائج. ولم يكن هذا التراجع هو الأول من نوعه؛ فقد فشل الرئيس أردوغان في حسم الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في مايو 2023 من الجولة الأولى؛ ما أجبره على الدخول في جولة ثانية لأول مرة.2– عودة أزمة الخصوم المحليين: تزامن المؤتمر الثامن للعدالة والتنمية مع عودة أزمة الخصوم المحليين؛ حيث يواجه حزب الشعب الجمهوري معضلة غير مسبوقة، على خلفية فتح النيابة العامة في 10 فبراير 2025 تحقيقات بالفساد بسبب شبهة وجود اتهامات بالرشى وشراء الأصوات في المؤتمر العام للحزب عام 2023، كما طفا مؤخراً على السطح الجدل المكتوم داخل الحزب بعد إعلان أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، في 22 فبراير 2025، الترشح للرئاسيات المقبلة من دون التشاور مع القاعدة الانتخابية للحزب.3– تصاعد الجدل بشأن تعديل الدستور: يأتي مؤتمر حزب العدالة والتنمية في ظل جدل محتدم بشأن كتابة دستور جديد للبلاد بين حزب العدالة والتنمية، وأحزاب المعارضة؛ فبعدما أكد الرئيس أردوغان في مايو 2024 أن البلاد بحاجة إلى دستور مدني جديد، والتخلص مما وصفه بـ"دستور الانقلابيين"، كشف مجدداً خلال المؤتمر الثامن عن عزمه وضع دستور جديد للبلاد، وأضاف: "إننا نحافظ على هدفنا المتمثل في تتويج ديمقراطيتنا بدستور جديد مدني وشامل". وفي المقابل، تشير المعارضة إلى أن الهدف من وراء هذا التغيير بوضع دستور جديد هو فتح الطريق أمامه للترشح لرئاسة البلاد، بعدما أصبح لا يحقُّ له، بموجب الدستور الحالي، الترشح مجدداً. وتجدر الإشارة إلى أن الدستور الحالي يمنع ترشح أردوغان؛ وذلك لانتخابه مرتين عقب انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي في 2017. ومن ثم فإنه يحتاج للترشح إما إلى تعديلات دستورية، وإما الذهاب إلى انتخابات مبكرة بقرار من البرلمان.4– محاولة تفكيك القضية الكردية: جاء المؤتمر الثامن للحزب مع جهود مغايرة لتفكيك القضية الكردية التي أدخلت البلاد في سلسلة من الأزمات الممتدة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي الصدارة منها مبادرة رئيس حزب الحركة القومية في أكتوبر 2024، التي تضمنت الإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان مقابل إعلانه عن تفكيك الحزب وإلقاء السلاح، وهو ما أطلقه أوجلان في 23 فبراير 2025 من سجنه في جزيرة إمرالي التركية. وتهدف المبادرة إلى إيجاد حل سياسي شامل للقضية الكردية في سوريا والعراق وتركيا، مع التركيز على الحوار والوسائل الديمقراطية بدلاً من الصراع المسلح، كما وجه أوجلان في منتصف فبراير 2025 رسائل إلى ثلاثة أطراف كردية رئيسية: قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، شمال شرق سوريا، وقيادة "حزب العمال الكردستاني" في جبال قنديل شمال العراق، و"المؤتمر الوطني الكردي" في أوروبا. وتهدف هذه الرسائل إلى توحيد الموقف الكردي وبلورة رؤية سياسية مشتركة.5– تزامُن المؤتمر مع تعقيدات الأوضاع الإقليمية: وفقاً للعديد من التقديرات، فإن المؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية يبدو مختلفاً عن كل ما سبقه طوال السنوات الماضية؛ لكونه يأتي في ظل تطورات إقليمية غير مسبوقة، أهمها سقوط النظام السوري، وصعود هيئة تحرير الشام الموالية لتركيا إلى سدة السلطة في دمشق، بالإضافة إلى عودة عسكرة الأزمة مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" شمال شرق سوريا، وسعي أنقرة إلى استثمار المشهد السوري الجديد لتقطيع أوصال المشروع الكردي في الإقليم.كما يتزامن المؤتمر الثامن مع استمرار تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، وكذلك التوغل الإسرائيلي في جنوب سوريا، الذي أدى إلى توتر العلاقة بين أنقرة وتل أبيب، والذي وصل إلى حد تحذير تقديرات إسرائيلية في 21 فبراير 2025 من احتمال نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بين إسرائيل وتركيا، في ظل التغيرات الجيوسياسية الأخيرة في المنطقة، خاصةً بعد صعود نظام جديد في سوريا يحظى بدعم أنقرة. رسائل متنوعةتشير مخرجات المؤتمر الثامن والسياقات المتداخلة التي تزامنت مع المؤتمر إلى جملة من التداعيات المحتملة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– تعزيز استمرارية أردوغان في المشهد: مع منح الرئيس أردوغان ولاية جديدة خلال السنوات المقبلة، فإن ذلك سوف يمنحه مزيداً من السلطة، بالإضافة إلى أن هذا الفوز يؤشر على احتمالات تعديل الدستور، بما يضمن له الترشح خلال الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها عام 2028. وعلى ضوء ذلك، يمكن تفسير موافقة المندوبين بالإجماع على تولي أردوغان رئاسة الحزب، وهي الموافقة التي تعني في جوهرها ترسيخ أفكاره ومبادئه بشأن إدارة السياسات التركية خلال الفترة المقبلة.2– إجراء تغييرات في الحزب لتعزيز حضوره السياسي: شهد المؤتمر الثامن للحزب تغييرات لافتة في هيكلة الحزب؛ إذ ضمت لجنة القرار المركزي والإدارة، التي تعد أعلى هيئة اتخاذ قرار في الحزب، 39 عضواً جديداً؛ منهم لاعب كرة القدم الألماني من أصل تركي مسعود أوزيل؛ وذلك من إجمالي 75 عضواً؛ أي بنسبة تغيير بلغت 52%، كما تم تعديل النظام الداخلي للجنة التنفيذية المركزية، من خلال الموافقة على توسيع عضويتها من 16 إلى 19. وبالتوازي مع ذلك، تشير بعض التحليلات إلى أن التغييرات في العدالة والتنمية قد لا تقتصر على الهيكلة الحزبية الداخلية، بل قد تمتد إلى تعديلات وزارية مرتقبة، في إشارةٍ إلى أن الحزب يعيد النظر في حساباته السياسية والتنظيمية.3– محاولة حزب العدالة والتنمية استقطاب الخصوم: في إطار مساعي حزب العدالة والتنمية إلى القفز فوق التراجع الحادث في شعبيته، أبدى المؤتمر الثامن حرصاً لافتاً على محاولة استعادة النفوذ وتطوير الصورة الذهنية؛ وذلك من خلال جذب الخصوم المحليين. وظهر ذلك في انضمام نواب مستقلين من أحزاب أخرى إلى حزب العدالة والتنمية، وتم إدراج بعضهم في مجلس القرار والتنفيذ، في خطوةٍ تعكس توجه الحزب نحو استقطاب شخصيات جديدة لتعزيز صفوفه وإعادة تشكيل توازناته الداخلية.4– توظيف بعض الإنجازات لدعم مكانة الحزب: يكشف تحليل خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال المؤتمر الثامن للحزب عن محاولة توظيف بعض الإنجازات التركية بكثافة؛ وذلك في محاولةٍ للرد على الشكوك والانتقادات التي وُجِّهت إلى الحزب خلال الأشهر الماضية، خاصةً ما يتعلق بإدارة الأوضاع الاقتصادية. وهنا يمكن تفسير إشارة أردوغان إلى أن بلاده باتت الأولى عالمياً في إنتاج الطائرات المسيرة، والـ11 في صادرات الصناعات الدفاعية، بالإضافة إلى تأكيده نجاح حزب العدالة والتنمية في الارتقاء بتركيا إلى مصاف اقتصادات التريليون دولار، بعد زيادة حصة البلاد في الاقتصاد العالمي من 0.7% إلى 1.1%.ختاماً، يمكن القول إن الاهتمام غير المسبوق للمؤتمر الثامن لحزب العدالة والتنمية يرتبط في الأساس بتعقيدات الداخل التركي بجانب التطورات الإقليمية التي كانت لها انعكاساتها على تركيا. وعلى ضوء ذلك، أبدى الرئيس أردوغان اهتماماً كبيراً بالسعي إلى توظيف هذا المؤتمر؛ ليس لتثبيت دوره في المشهد السياسي خلال المرحلة المقبلة فقط، بل لتأكيد فاعلية الحزب ودوره في إدارة البلاد، وربط مستقبل تركيا بموقع ومكانة العدالة والتنمية.

أبعاد انعقاد المؤتمر العام الثامن لحزب العدالة والتنمية في تركيا