عقد إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية حلقة نقاشية بعنوان "حالة بروكسل: التحولات في بنية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي"، استضاف خلالها د. توفيق إكليمندس، رئيس وحدة الدراسات الأوروبية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، ومحاضر بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالشعبة الفرنسية - جامعة القاهرة، عضو الهيئة الاستشارية لمؤسسة الحوار الإسلامي المسيحي، وأستاذ زائر سابق في جامعة السوربون، وباحث رئيسي سابق في الكوليج دي فرانس.

تاريخ النشأة

مرَّ الاتحاد الأوروبي بمراحل متعددة منذ نشأته، حيث بدأ كمشروع اقتصادي محدود ثم تحول إلى كيان سياسي موسع يواجه تحديات متزايدة. وقد سلط المشاركون في الحلقة النقاشية الضوء على المحطات التاريخية الأساسية التي شكلت الاتحاد الأوروبي، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- التحول من سوق مشتركة إلى مشروع سياسي متوسع: انطلق المشروع الأوروبي في البداية كسوق اقتصادية مشتركة بين فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا الغربية، وبلجيكا، وبولندا، ولكسمبورج، بهدف تعزيز التعاون التجاري وتقليل العوائق الاقتصادية بين الدول الأعضاء. لعبت الأحزاب الديمقراطية المسيحية دوراً رئيسياً في الترويج لهذا المشروع، مستندة إلى الإرث النابليوني الذي أثر على معظم هذه الدول. غير أن الاتحاد الأوروبي لاحقاً تبنى خليطاً بين الليبرالية الاقتصادية والسياسات الاجتماعية ذات التوجه اليساري، مما أدى إلى إعادة تشكيل هويته وسياساته بمرور الوقت.

2- تحديات التوسع وتآكل الوحدة الثقافية: كان من أبرز مبادئ الاتحاد الأوروبي إزالة الحدود بين الدول الأعضاء، وتعزيز حرية حركة الأفراد والسلع والخدمات، وهو ما نجح في تحقيقه بين الدول المتقاربة ثقافياً. لكن مع التوسع غير المحدود، ظهرت تحديات جديدة أثرت على وحدة المشروع، إذ لم تعد القواسم الثقافية المشتركة بين الدول الست المؤسسة متوافرة مع انضمام دول ذات خلفيات تاريخية واقتصادية مختلفة.

اعتمد الاتحاد الأوروبي في هذه المرحلة على التفاؤل بنظرية نهاية التاريخ لفوكوياما، والتي روجت لفكرة أن الديمقراطية التمثيلية واقتصاد السوق هما النموذج الأمثل عالمياً. ومع ذلك، أظهرت الأزمات الاقتصادية والسياسية المتعاقبة، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية في 2009، أن هذا الافتراض لم يكن مستداماً، مما جعل الاتحاد الأوروبي في حالة من الإصلاح المستمر لمنع انهياره.

3- الخلافات حول العملة الموحدة وصعود الهيمنة الألمانية: لعبت الفترة بين 1981 و1990 دوراً حاسماً في تشكيل الاتحاد الأوروبي الحديث، حيث شهدت انهيار الشيوعية وإعادة توحيد ألمانيا. وضعت فرنسا شرطاً رئيسياً لدعم الوحدة الألمانية، تمثل في موافقة ألمانيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتبني اليورو كعملة موحدة، مما أدى إلى نشوء توازن قلق بين القوتين.

في حين قبلت ألمانيا هذه الشروط، فإنها لم تسامح فرنسا على تدخلها في شؤونها الداخلية، إذ رأت أن باريس تسعى إلى تقييد نفوذها في أوروبا. في المقابل، رأت رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر أن الاتفاق لم يكن يهدف إلى ربط ألمانيا بأوروبا، وإنما كان يؤدي إلى ربط أوروبا بألمانيا، وهو ما تحقق لاحقاً، حيث أصبحت برلين القوة المهيمنة داخل الاتحاد الأوروبي قادرة على فرض سياسات اقتصادية تؤثر على بقية الدول الأعضاء.

يعود هذا التفاوت إلى الاختلاف في منهجية الحوكمة بين ألمانيا والدول الأخرى؛ فبينما تتبع ألمانيا نموذجاً يعتمد على بناء السياسات من المجتمع إلى الدولة (Bottom-Up)، حاولت دول أوروبية أخرى فرض النموذج الألماني على مجتمعاتها من الأعلى إلى الأسفل (Top-Down)، وهو ما أدى إلى أزمات اقتصادية واجتماعية في بعض الدول.

4- إدراك الحاجة إلى إعادة ضبط أهداف المشروع الأوروبي: مع توالي الأزمات، أدرك القادة الأوروبيون ضرورة إعادة تقييم حدود وطموحات الاتحاد الأوروبي، بعدما ظل لعقود يروج لفكرة أنه كيان بلا أعداء. في سبيل ذلك، ارتكزت استراتيجيات الاتحاد الأوروبي على ثلاثة ديناميكيات رئيسية؛ أولها إزالة الطابع السياسي عن معظم التفاعلات الأوروبية، بحيث يتم التركيز على المصالح الاقتصادية والتشريعات المشتركة بدلاً من التحالفات السياسية. وصياغة قوانين موحدة تجمع بين البعد الاقتصادي والبعد الأخلاقي، مما جعل الاتحاد الأوروبي كياناً قائماً على المعايير والقوانين بدلاً من السياسات السياسية التقليدية. علاوة على تعزيز الدور التشريعي للمفوضية الأوروبية على حساب الدور السياسي للدول الأعضاء، حيث اتجهت المفوضية إلى تكريس الطابع الإداري على القضايا الأوروبية، في حين تراجع التنسيق السياسي المباشر بين الحكومات الأوروبية، مما أدى إلى إضعاف مركزية القرار السياسي الأوروبي.

أزمات حديثة

يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم أزمات متداخلة على عدة مستويات، تشمل الجوانب الاقتصادية والتكنولوجية والدفاعية والسياسية، مما يهدد استقراره الداخلي ويؤثر على مكانته الدولية. هذه الأزمات تعكس التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي في ظل التغيرات الجيوسياسية العالمية وتراجع نفوذه في بعض المجالات الحيوية.

1- تباين السياسات الاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي: تُعد السياسة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي مصدراً رئيسياً للخلاف بين الدول الأعضاء، حيث تم فرض مشروع اليورو كعملة موحدة دون وجود سياسات مالية وضريبية متجانسة تدعمه. تحتاج ألمانيا، باعتبارها القوة الاقتصادية الكبرى في أوروبا، إلى عملة قوية لضمان استقرار صناعاتها، خاصة وأن العديد من مصانعها الكبرى موجودة خارج حدودها في دول مثل بولندا والتشيك، مما يسمح لها بالاستفادة من العمالة الرخيصة مع الحفاظ على قيمة اليورو المرتفعة.

على الجانب الآخر، تعاني دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا واليونان من أزمات مالية متكررة، مما يدفعها إلى الحاجة إلى عملة مرنة يمكن خفض قيمتها بسهولة لتعزيز تنافسية صادراتها وتقليل الضغوط الاجتماعية المرتبطة بارتفاع الأجور وتكاليف المعيشة. إضافة إلى ذلك، لا توجد حتى الآن سياسة ضريبية موحدة في الاتحاد الأوروبي، كما أن أنظمة التأمين الاجتماعي وصناديق المعاشات تختلف بشكل كبير بين الدول الأعضاء، وهو ما يعوق إمكانية بناء وحدة اقتصادية حقيقية داخل القارة.

2- تراجع أوروبا في السباق الرقمي والتكنولوجي: شهد الاقتصاد العالمي تحولاً كبيراً خلال العقود الماضية؛ حيث أصبح قطاع التكنولوجيا الرقمية هو العمود الفقري الجديد للاقتصاد، بينما تراجعت أهمية الصناعات التقليدية مثل النفط والغاز. في السابق، كانت أوروبا تسيطر على قطاع الطاقة العالمي، حيث كانت أربع شركات أوروبية من بين أكبر سبع شركات نفطية في العالم، ولكن اليوم أصبحت الولايات المتحدة والصين هما القوتان المسيطرتان على قطاع التكنولوجيا والرقمنة، دون وجود أي شركة أوروبية تنافس بفاعلية في هذا المجال. يعود هذا التراجع إلى ضعف الاستثمارات الأوروبية في البحث والتطوير، حيث فضلت الحكومات الأوروبية تحقيق الاستقرار المالي على المدى القصير بدلاً من توجيه مواردها نحو الابتكار التكنولوجي.

3- ضعف الإنفاق الدفاعي الأوروبي: على مدار العقود الماضية، قلص الاتحاد الأوروبي إنفاقه الدفاعي بشكل كبير، متبنياً رؤية مثالية تقوم على تصدير الديمقراطية وحقوق الإنسان كوسيلة للحفاظ على الأمن، بدلاً من الاستثمار في القدرات العسكرية. إلا أن تصاعد التهديدات الأمنية، خاصة من روسيا والصين، كشف عن مواطن الضعف في هذه الاستراتيجية. على سبيل المثال، تمتلك فرنسا اليوم نحو 200 دبابة فقط، من بينها 40 دبابة قيد الصيانة، مما يعكس مدى تراجع القدرات العسكرية الأوروبية. في المقابل، بدأت ألمانيا في إعادة الاستثمار في الصناعات الحربية، لكنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على شراء الأسلحة الأمريكية، مما يعكس افتقار الاتحاد الأوروبي لسياسة دفاعية موحدة ومستقلة. ورغم تعهد بعض الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها الدفاعي، إلا أن استعادة القدرات العسكرية لن يكون أمراً سريعاً، حيث قد يستغرق عقداً كاملاً أو أكثر لإعادة بناء الجيوش الأوروبية وتأهيلها لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة.

4- صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة: شهدت أوروبا في السنوات الأخيرة صعوداً متزايداً للأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تروج لأجندة قومية وتعارض الاتحاد الأوروبي. في إيطاليا، تمكن حزب "إخوة إيطاليا" بقيادة جورجيا ميلوني من الوصول إلى الحكم في عام 2022 بعد تحقيقه انتصاراً كبيراً في الانتخابات البرلمانية، حيث حصل على 237 مقعداً من أصل 400. في ألمانيا، حقق حزب "البديل من أجل ألمانيا" نجاحات كبيرة في الانتخابات الإقليمية لعام 2024، حيث حصل على ما يقرب من ثلث الأصوات في ولاية تورينغن، وحل في المركز الثاني في ولاية ساكسونيا.

هذا الصعود لم يقتصر على المستوى الوطني فقط، بل امتد أيضاً إلى البرلمان الأوروبي، حيث حصلت الأحزاب اليمينية المتطرفة على 192 مقعداً من أصل 751 في انتخابات عام 2019. هذا التحول يعكس تصاعد النزعة القومية داخل أوروبا، حيث باتت قطاعات واسعة من الناخبين ترفض سياسات الاتحاد الأوروبي، وتسعى إلى إعادة تعزيز الهويات الوطنية، مما يشكل تحدياً كبيراً لمستقبل التكامل الأوروبي.

5- ارتفاع أسعار السلع الغذائية وأزمة الزراعة: يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة في قطاع الزراعة بسبب السياسات البيئية الصارمة التي فرضها على المزارعين، والتي تهدف إلى حماية البيئة لكنها أدت إلى زيادة تكاليف الإنتاج بشكل كبير. سكان المناطق الريفية في أوروبا يعانون من هذه الأزمة، حيث أصبحت المنتجات الزراعية الأوروبية أكثر تكلفة، مما انعكس على ارتفاع أسعار السلع الغذائية في الأسواق المحلية. لمواجهة هذه الأزمة، لجأ الاتحاد الأوروبي إلى توقيع اتفاقيات تجارية مع دول أمريكا اللاتينية، التي تمتلك قدرة إنتاجية كبيرة في مجال الزراعة بأسعار أقل، لكنها لا تلتزم بالمعايير البيئية الأوروبية نفسها. هذا التوجه يعكس معضلة يواجهها الاتحاد الأوروبي، حيث يجد نفسه مضطراً للاختيار بين الحفاظ على معايير الاستدامة البيئية، أو توفير السلع بأسعار معقولة للمستهلكين.

6- أزمة معدلات الإنجاب والهجرة داخل أوروبا: تعاني أوروبا من أزمة ديموغرافية حادة نتيجة التراجع المستمر في معدلات الإنجاب، مما أدى إلى ارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع الأوروبي، وزيادة الحاجة إلى العمالة المهاجرة. رغم أن الهجرة يمكن أن تكون حلاً لهذه الأزمة، إلا أن المجتمعات الأوروبية لا تزال منقسمة بشدة حول هذه القضية. الطبقات النخبوية والشرائح المتعلمة في أوروبا تميل إلى دعم سياسات الهجرة باعتبارها وسيلة لتعويض النقص في القوى العاملة، بينما تعارض الطبقات الوسطى والشعبية هذا التوجه، حيث ترى أن المهاجرين يمثلون تهديداً للهوية الثقافية الأوروبية.

هذه الانقسامات تسببت في صعود الأحزاب القومية التي ترفض استقبال المهاجرين، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي داخل القارة. في الوقت نفسه، بدأت أوروبا تفقد قدرتها على جذب العقول المبتكرة، حيث أصبحت المواهب الشابة تفضل التوجه إلى دول مثل الولايات المتحدة والخليج العربي، التي توفر بيئات اقتصادية أكثر تنافسية وفرصاً أكبر للنمو.

الاختلافات البينية

رغم التكتل الذي يجمع دول الاتحاد الأوروبي، فإن هناك اختلافات جوهرية بين الأعضاء حول القضايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- تباين سرعة اتخاذ القرار بين فرنسا وألمانيا: تمتلك كل من فرنسا وألمانيا نهجين مختلفين تماماً فيما يتعلق بسرعة اتخاذ القرار، وهو ما يعود إلى الخلفيات الدستورية والسياسية لكل منهما. في فرنسا، يمنح النظام الرئاسي صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، حيث يستطيع اتخاذ قرارات سريعة دون الحاجة إلى موافقة البرلمان في العديد من القضايا، خصوصاً القضايا العسكرية. تجلى ذلك في عام 2013 عندما أرسل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند قوات إلى أفريقيا خلال ساعة واحدة، مستنداً فقط إلى استشارة القادة العسكريين دون الحاجة إلى تصويت برلماني. على النقيض، يتمتع النظام الألماني بقدرٍ أكبر من البيروقراطية، حيث يجب أن تكون الحكومة ائتلافية، كما يتطلب اتخاذ قرارات كبرى مثل التدخل العسكري الحصول على موافقة البرلمان، فضلاً عن استشارة حكام الأقاليم. هذا التعقيد في عملية صنع القرار يجعل ألمانيا أبطأ من فرنسا في التعامل مع القضايا الطارئة، ولكنه في الوقت نفسه يمنح سياستها نوعاً من التوازن والشرعية الداخلية.

2- الاختلاف في الأولويات الدفاعية والطاقوية: يختلف نهج فرنسا وألمانيا فيما يتعلق بالملف الدفاعي وأمن الطاقة، حيث تولي فرنسا اهتماماً أكبر بالقضايا العسكرية، بينما تركز ألمانيا على الاقتصاد والاستقرار المالي. رغم أن الناتج القومي الألماني يتجاوز نظيره الفرنسي بحوالي تريليون يورو، إلا أن فرنسا لا تزال أكثر استعداداً للإنفاق على الدفاع، خاصة في تطوير المشاريع النووية، في حين تتعامل ألمانيا بحذر مع هذا الملف. يعود هذا الاختلاف جزئياً إلى المواقف التاريخية لكل دولة، حيث تعتمد فرنسا على استراتيجيتها النووية المستقلة كجزء من رؤيتها للأمن القومي، بينما تميل ألمانيا إلى تفادي التصعيد العسكري بسبب إرثها في الحرب العالمية الثانية.

أما في مجال الطاقة، فقد أثبتت فرنسا أنها كانت أكثر حصافة من ألمانيا، حيث احتفظت بقدراتها النووية لتأمين احتياجاتها من الكهرباء، بينما اتخذت ألمانيا في عام 2011 قراراً بإغلاق مفاعلاتها النووية بناءً على توجه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وهو ما تسبب في ارتفاع تكاليف الطاقة لديها. ومع انخفاض أسعار الطاقة في فرنسا بسبب استمرار الاعتماد على المفاعلات النووية، تخشى ألمانيا من أن تتحول فرنسا إلى مركز جاذب للشركات الصناعية التي قد تُغادر ألمانيا بحثاً عن تكلفة طاقة أقل. كما كانت فرنسا تسعى إلى تنفيذ ثلاثة مطالب أساسية داخل الاتحاد الأوروبي، تشمل وضع آلية مشتركة لحوكمة الاقتصاد الأوروبي، وتوزيع أعباء الديون بين الدول، وفرض حد أدنى موحد للأجور؛ إلا أن هذه المقترحات واجهت رفضاً من قبل ألمانيا ودول الشمال الأوروبي.

3- اختلاف التهديدات بين أوروبا الشرقية والجنوبية: يختلف تصور التهديدات الأمنية بين دول الاتحاد الأوروبي وفقاً لموقعها الجغرافي وخلفياتها التاريخية. بالنسبة لدول أوروبا الشرقية، يمثل التهديد الروسي الخطر الرئيسي، حيث ترى هذه الدول أن موسكو لا تزال تشكل تهديداً مباشراً لاستقلالها وسيادتها، خصوصاً بعد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. بناءً على ذلك، تميل هذه الدول إلى دعم الناتو وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا.

أما بالنسبة لدول جنوب أوروبا، فإن التهديد الأساسي يأتي من العالم الإسلامي وتركيا، حيث تركز هذه الدول على قضايا الهجرة غير الشرعية والتوترات مع أنقرة. يمتلك كل من فرنسا وإنجلترا إرثاً استعمارياً يمنحهما رؤية استراتيجية عالمية، وهو ما يظهر بشكل خاص في السياسة الفرنسية التي لا تزال تعتمد على نفوذها في مستعمراتها السابقة في أفريقيا والمحيطين الهندي والهادئ.

4- جدل حول الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة: يشكل ملف الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة نقطة خلاف رئيسية داخل الاتحاد الأوروبي. تقود فرنسا الجهود لإنشاء جيش أوروبي مستقل يمكنه حماية القارة في حال تراجع الالتزام الأمريكي تجاه أوروبا، وهو سيناريو تعتقد باريس أنه أصبح أكثر احتمالاً في ظل سياسات بعض الإدارات الأمريكية التي تبنت نهجاً أكثر انعزالية. في هذا السياق، تروج فرنسا لفكرة إحلال الردع النووي الفرنسي محل الردع النووي الأمريكي في أوروبا، إلا أن هذا الطرح لا يلقى إجماعاً أوروبياً، حيث ترفض ألمانيا ومعظم دول أوروبا الشرقية هذا التوجه، وتعتبر أن استمرار الحماية الأمريكية هو الخيار الأكثر أمناً.

تتبنى دول شرق أوروبا نهجاً أكثر براجماتية، حيث تفضل تقديم تنازلات أكبر لواشنطن لضمان استمرار الدعم الأمريكي، حتى وإن كانت تعي أن هذا الدعم قد يتراجع في المستقبل. تؤثر هذه الانقسامات في وجهات النظر على القرارات الاستراتيجية داخل الاتحاد الأوروبي.

5- الاختلاف في النظر إلى بعض الدول كعبء اقتصادي: تتباين مواقف الدول الأوروبية فيما يتعلق بتوزيع الأعباء الاقتصادية داخل الاتحاد، حيث تنظر بعض الدول، مثل ألمانيا وهولندا، بحذر إلى الأوضاع المالية في دول جنوب أوروبا، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، والتي تواجه أزمات مالية متكررة. تمثل الديون المتراكمة في فرنسا وإيطاليا تحدياً كبيراً لاستقرار الاتحاد، حيث لا تزال قدرة فرنسا على إدارة ديونها موضع تساؤل، في حين تظهر إيطاليا بوادر تحسن نسبي في هذا المجال.

أما ألمانيا، فترى أن بعض الدول تشكل عبئاً مالياً على الاتحاد، وهو ما يظهر في موقفها المتحفظ تجاه انضمام اليونان إلى منطقة اليورو منذ البداية. يعكس هذا الموقف الاعتقاد السائد في ألمانيا ودول الشمال الأوروبي بأن "الغرب الحقيقي" يتكون من الدول الكاثوليكية والبروتستانتية، وليس الأرثوذكسية، وهو ما أثر على تعاملها مع الدول الأوروبية الجنوبية. هذا التصور يعزز التوترات بين دول الشمال الأكثر استقراراً مالياً ودول الجنوب التي تعاني من أزمات اقتصادية مستمرة، مما يجعل من الصعب التوصل إلى توافق حول سياسات مالية مشتركة داخل الاتحاد الأوروبي.

تداعيات واسعة

تشير التطورات الحالية داخل الاتحاد الأوروبي إلى عدد من التداعيات المحتملة التي قد تعيد تشكيل علاقاته الخارجية وتوجهاته الاستراتيجية.

1- توسع النفوذ الصيني في ظل صعود الأحزاب اليمينية: تزامن صعود الأحزاب اليمينية في العديد من الدول الأوروبية مع تنامي النفوذ الصيني في القارة، حيث تتبنى هذه الأحزاب سياسات تركز على المصالح الوطنية دون إعطاء أولوية كبيرة لقضايا مثل حقوق الإنسان، وهو ما يجعلها أكثر تقبلاً لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع بكين. تتمتع الصين بالفعل بنفوذ اقتصادي قوي في شرق أوروبا، حيث ترتبط بـ 16 دولة في إطار تحالف اقتصادي تعود جذوره إلى الحقبة الشيوعية، ويهدف إلى تعزيز الاستثمار الصيني في البنية التحتية، خاصة في الموانئ وشبكات الطرق. ومع ذلك، فإن بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا، تنظر بحذر إلى هذا النفوذ بسبب علاقاتها العدائية التقليدية مع روسيا، وخشيتها من التقارب الصيني-الروسي وتأثيره على التوازن الاستراتيجي في المنطقة.

2- انقسامات حول التعامل مع تركيا: تشهد أوروبا انقسامات واضحة في مواقفها تجاه تركيا، حيث يمكن تصنيف الدول الأوروبية إلى ثلاث فئات رئيسية في هذا الملف. الفئة الأولى تضم الدول التي يمكن اعتبارها "أسيرة" للعلاقة مع أنقرة، نظراً لوجود جاليات تركية كبيرة على أراضيها، مثل ألمانيا والنمسا وبلجيكا. هذه الدول تعتمد على استقرار العلاقة مع تركيا لتجنب توترات داخلية قد تنعكس على أمنها الاجتماعي، مما يجعلها أكثر حذراً في التعامل مع أنقرة.

الفئة الثانية تشمل الدول التي تحتفظ بعلاقات إيجابية مع تركيا، مثل إسبانيا والبرتغال، حيث لا تمثل أنقرة بالنسبة لهما تهديداً استراتيجياً كبيراً، بل يتم التعامل معها كشريك اقتصادي وسياسي في قضايا البحر المتوسط. أما الفئة الثالثة، فتضم دولاً مثل فرنسا والدنمارك، التي تتبنى مواقف أكثر تشدداً تجاه تركيا، خاصة فيما يتعلق بدورها في دعم تيارات الإسلام السياسي. في حين أن إنجلترا تعتبر تركيا دولة ذات أهمية استراتيجية يصعب تجاهلها، فإن إيطاليا تحاول التوازن بين حساسيتها تجاه الإسلاميين من جهة، وسياستها التقليدية في تعزيز التعاون مع الدول المتوسطية من جهة أخرى.

3- صعوبة تطوير سياسة دفاعية مستقلة عن الناتو: رغم تكرار الحديث داخل الاتحاد الأوروبي عن ضرورة تطوير سياسة دفاعية مستقلة، فإن الواقع يشير إلى أن هذا الطموح لا يزال بعيد المنال. فرنسا وحدها هي التي تدفع باتجاه تقليل الاعتماد على الناتو، حيث تسعى إلى بناء قدرات دفاعية أوروبية مستقلة، إلا أن الدول الأوروبية الأخرى لا تشاركها هذه الرؤية بالكامل. لا تزال ألمانيا ومعظم دول أوروبا الشرقية تعتبر أن الناتو هو الضامن الأساسي لأمنها، كما أن العديد من الدول الأوروبية ليست مستعدة لتحمل التكاليف الباهظة اللازمة لإنشاء منظومة دفاعية مستقلة.

يواجه الطموح الفرنسي في تحقيق الاستقلال الدفاعي عقبات مالية كبيرة، حيث تعاني باريس من صعوبات في تخصيص 2.5% من ناتجها القومي للإنفاق العسكري، وهو ما يجعلها غير قادرة على قيادة مشروع دفاعي أوروبي مستقل. في ظل هذه الظروف، يظل الناتو الخيار الوحيد الذي تعتمد عليه أوروبا لضمان أمنها، مما يحدّ من أي توجهات نحو تطوير قوة عسكرية أوروبية خارج المظلة الأمريكية.

4- البراجماتية الأوروبية في التعامل مع دول الخليج: لم تعد أوروبا في موقع يسمح لها بفرض أجنداتها السياسية على دول الخليج، خاصة فيما يتعلق بملفات حقوق الإنسان، حيث باتت تدرك أن القوة الاقتصادية المتزايدة لدول الخليج تجعلها شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه. في هذا السياق، أصبح النهج الأوروبي أكثر براجماتية، حيث تركز الدول الأوروبية على المصالح الاقتصادية بدلاً من إثارة قضايا قد تضر بعلاقاتها الاستراتيجية مع دول الخليج.

من أبرز هذه المصالح الحاجة الملحّة إلى تأمين إمدادات الطاقة، خاصة بعد الأزمة التي خلفتها الحرب في أوكرانيا. تسعى أوروبا حالياً إلى إيجاد طرق بديلة لاستيراد الغاز الخليجي، سواء عبر تركيا أو من خلال خطوط إمداد تمر عبر سوريا. هذه الحسابات الاقتصادية تجعل أوروبا أكثر ميلاً إلى تعزيز التعاون مع دول الخليج في مجالات الطاقة والاستثمار، بدلاً من الانخراط في سياسات قد تؤثر سلباً على علاقاتها مع هذه الدول.

5- تحديات تطوير عقيدة أمنية أوروبية مستقلة في الشرق الأوسط: لا تزال أوروبا تواجه صعوبات في صياغة رؤية أمنية موحدة تجاه قضايا الشرق الأوسط، بسبب الانقسامات العميقة في مواقف دولها تجاه الملفات الإقليمية. تُعد القضية الفلسطينية واحدة من أبرز القضايا التي تعكس هذه الانقسامات، حيث تدعم معظم الدول الأوروبية حل الدولتين، وتدعو إلى وقف العنف في غزة، لكنها في الوقت نفسه تتبنى مواقف متباينة تجاه إسرائيل. ألمانيا، على سبيل المثال، تظل منحازة بشكل كامل لإسرائيل بسبب إرثها التاريخي، وهو ما أكدت عليه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل عندما صرحت بأن "أمن إسرائيل من أمن ألمانيا"، مما يجعل برلين تتبنى سياسات أكثر تحفظاً تجاه القضية الفلسطينية.

على الجانب الآخر، ترى كل من فرنسا وإنجلترا أن تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة يوفر فرصة لتعزيز الحوار مع طهران، لكن هذا لا يعني أن باريس تسعى إلى تقارب استراتيجي مع إيران. بدلاً من ذلك، تحاول فرنسا موازنة علاقاتها مع دول إسلامية أخرى لتعزيز دورها في الشرق الأوسط، حيث تحتفظ بعلاقات قوية مع المغرب، لكنها تتردد في تعزيز التعاون مع تركيا وإيران بسبب تقلب سياساتهما الإقليمية. في المقابل، تعد مصر ودول الخليج شريكاً أكثر استقراراً بالنسبة لفرنسا، مما يعزز احتمالات توسيع التعاون الأمني والاستراتيجي بين الجانبين في المستقبل.

خلاصة القول، تظهر هذه التداعيات أن الاتحاد الأوروبي يمر بمرحلة انتقالية ستحدد ملامح دوره العالمي في السنوات المقبلة. فمن جهة، يؤدي صعود الأحزاب اليمينية إلى إعادة تشكيل السياسة الأوروبية تجاه الصين وروسيا، في حين أن الانقسامات حول تركيا والناتو تعكس تباين الرؤى الاستراتيجية بين الدول الأعضاء. من جهة أخرى، بات من الواضح أن أوروبا تتبنى نهجاً أكثر براجماتية في التعامل مع دول الخليج، وتسعى إلى تعزيز شراكاتها الاقتصادية والأمنية معها. في المقابل، لا تزال التحديات المرتبطة بالشرق الأوسط تعيق قدرة أوروبا على تبني رؤية موحدة تجاه المنطقة، مما يجعل من الصعب على الاتحاد الأوروبي لعب دور مؤثر في حل أزمات الشرق الأوسط دون التنسيق مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين.

التحولات في بنية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي (حلقة نقاشية)