السيد صدقي عابدين


        
<p>لم تكن كوريا الجنوبية بعيدة يوماً ما عما يجري على الساحة الأوكرانية منذ سنوات؛ حيث تفاعلت مع الأزمة مبكراً، وقد زاد هذا التفاعل مع تأزم الأمور في شهور ما قبل إطلاق روسيا عملياتها العسكرية في 24 فبراير الماضي. كما زاد الانخراط الكوري الجنوبي بدرجة أكبر خلال الحرب. من هذا المنطلق، أثار موقف كوريا الجنوبية اللافت من الأزمة الأوكرانية اهتمام الكثيرين، وهو ما يستدعي تحليل أبعاد الموقف الكوري الجنوبي، وبيان أسباب اهتمام سيول بهذا الملف رغم البعد الجغرافي بينها وبين أوكرانيا، وكذلك التداعيات المحتملة على كوريا الجنوبية من جراء هذه الأزمة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">خطوط عريضة</span></strong></p>



<p><strong>يمكن استعراض الملامح العامة لسياسة كوريا الجنوبية تجاه الأزمة الأوكرانية قبل وبعد انطلاق العمليات العسكرية الروسية؛ وذلك على النحو الآتي: </strong><strong></strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– </strong><strong>معارضة سياسة روسيا تجاه أوكرانيا على الدوام:</strong> لم تقر كوريا الجنوبية السياسة الروسية تجاه أوكرانيا منذ سنوات. وفي ضوء ذلك، عارضت سيول ضم شبه جزيرة القرم من قِبَل روسيا، وطالبت دائماً بتطبيق التفاهمات والاتفاقات والقرارات الدولية المتعلقة بمنطقة شرق أوكرانيا. وكانت دائمة التأكيد لأهمية الحلول السلمية في إطار المحافظة على سيادة واستقلال ووحدة أراضي أوكرانيا، مع ضرورة إيلاء الجوانب الإنسانية الاهتمام اللازم، في ظل التصعيد والتوتر والاشتباكات التي كانت تحدث في منطقة الشرق الأوكراني.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– الوقوف بقوة ضد العمليات العسكرية الروسية: </strong>عارضت كوريا الجنوبية الاعتراف الروسي بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك، ومن ثم وقفت ضد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، واعتبرتها غزواً لدولة ذات سيادة، وطالبت بوقف إطلاق النار، وكانت في طليعة الدول التي تقدمت بمشاريع القرارات الدولية التي تدين روسيا. واعتبرت سيول أن ما يحدث في أوكرانيا يُعد من أحلك الظروف في التاريخ المعاصر. واستندت كوريا الجنوبية في معارضتها للعمليات العسكرية الروسية إلى تأكيد أن موسكو هي من اختارت هذه الحرب، ورأت أنه كان من الممكن ألا تحدث لو استجابت روسيا للنداءات الدولية. وسمحت كوريا الجنوبية أيضاً بتنظيم تظاهرات، سواء من الأوكرانيين المقيمين أو من الكوريين ضد العمليات الروسية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ويُلاحَظ على تفاصيل الموقف الكوري الجنوبي أنه يُحمِّل كامل المسؤولية، أو على الأقل الجزء الأكبر منها لروسيا. وفي المقابل فإنه يعفي الأطراف الأخرى من أي مسؤولية، أو على الأقل لم يشر إلى ذلك مطلقاً. هذا على عكس مواقف أخرى تذهب إلى تحميل الجزء الأكبر من المسؤولية عما جرى لواشنطن وحلفائها؛ نظراً إلى أنهم لم يأخذوا في الاعتبار المخاوف الأمنية الروسية، واستمروا في الضغط عليها ومحاصرتها والاستهانة بها؛ علماً بأن أصحاب الموقف الأخير لم يعلنوا تأييداً واضحاً لما قامت به روسيا من حيث الاعتراف والضم، وإجراءات عسكرية في الأراضي الأوكرانية، ويطالبون كذلك باللجوء إلى الحلول السلمية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تقديم مساعدات للأوكرانيين داخل وخارج البلاد: </strong>انحازت كوريا الجنوبية إلى صف الدول التي فرضت عقوبات على روسيا، وأعلنت سيول منذ اليوم الأول للعمليات الروسية عن نيتها فرض عقوبات اقتصادية على موسكو، وشمل ذلك التعاملات البنكية والصادرات والواردات. وبجانب ذلك، قدَّمت سيول المساعدات الإنسانية لأوكرانيا والأوكرانيين في الدول المجاورة، وأعطت تيسيرات للأوكرانيين المقيمين على الأراضي الكورية، وأعلنت على لسان كبار مسؤوليها التضامن مع الشعب الأوكراني في محنته، خاصةً في ظل تزايد أعداد الضحايا المدنيين، والتدمير الواسع للبنية التحتية المدنية بما يتعارض مع القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– إعطاء أوكرانيا مساعدات عسكرية غير نوعية: </strong>قدمت كوريا الجنوبية كذلك بعض المساعدات العسكرية، لكنها في هذا الإطار لم تستجب للطلبات الأوكرانية بخصوص تزويدها بمعدات عسكرية تحت بند الأسلحة الفتاكة، وإنما اقتصرت على الخوذات الواقية من الرصاص، وبعض الإمدادات التي تدخل في النطاق الطبي العسكري أكثر من الأسلحة. يُذكر أن كوريا الجنوبية وجدت نفسها أمام معضلة تتعلق بسفر بعض مواطنيها للقتال مع الأوكرانيين، منهم جنود سابقون وحاليون؛ حيث كان من بين من سافروا بالفعل إلى أوكرانيا أحد الجنود الكوريين أثناء فترة إجازة من الخدمة؛ علماً بأن سيول كانت قد حظرت السفر إلى أوكرانيا، واعتبرت هذا الأمر مخالفاً للقانون.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">مداخل مفسرة</span></strong></p>



<p><strong>ثمة مجموعة من الحسابات يمكن من خلالها تفسير موقف كوريا الجنوبية من الأزمة الأوكرانية. وتتضح هذه الحسابات عبر ما يأتي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– معايشة ظروف شبيهة في منتصف القرن الماضي: </strong>هناك بُعد تاريخي مُفسِّر للموقف الكوري الجنوبي، ويتضح هذا الأمر من خلال تصريحات سابقة لمندوب كوريا الجنوبية الدائم لدى الأمم المتحدة تشون هيون، اعتبر خلالها أن ما سمَّاه التراجيديا الأوكرانية ليست ببعيدة عن بلاده، معتبراً أن بلاده عاشت تراجيديا مشابهة في بداية خمسينيات القرن الماضي، في إشارة إلى الحرب الكورية بين عامي 1950 و1953. وأكد هيون أن الأمم المتحدة قد وقفت بقوة بجوارها، وأنها كانت المرة الأولى التي يتم اللجوء فيها إلى الجمعية العامة بعدما عجز مجلس الأمن عن ممارسة مهامه في حفظ السلم والأمن الدوليين، بعدما عطل الاتحاد السوفييتي عمل المجلس في حينه.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– الاتساق مع التحالف القوي مع الولايات المتحدة: </strong>بجانب الاعتبارات التاريخية والأخلاقية للموقف الكوري الجنوبي من أزمة أوكرانيا، هناك اعتبار آخر مرتبط بنمط علاقات سيول الخارجية؛ فكوريا الجنوبية حليف للولايات المتحدة. والأخيرة توفر لها الحماية على مدار عقود. ولا تزال القواعد العسكرية الأمريكية وما تضمه من آلاف الجنود قائمة في الأراضي الكورية الجنوبية. وشهدت السنوات الأخيرة نصب وحدات من نظام الدرع الصاروخي الأمريكي المعروف اختصاراً بـ"ثاد" في كوريا الجنوبية، وقد أثار ذلك حفيظة كل من الصين وروسيا، واعتراض كوريا الشمالية التي تعارض أي وجود أمريكي في كوريا الجنوبية، وما يرتبط به من تدريبات مشتركة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وكما هو معلوم، فإن بيونج يانج تمثل في المنظور الكوري الجنوبي التهديد الأكبر، خاصةً أنها مستمرة في تدعيم ترسانتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية بما في ذلك النووية والصاروخية. ومن ثم فإن تدعيم التحالف مع الولايات المتحدة مطلب مستمر من قبل كل الحكومات الكورية، حتى تلك التي تميل إلى التهدئة مع كوريا الشمالية. يُضاف إلى ذلك أن كوريا الجنوبية ترى أنها محسوبة على الدول الديمقراطية ذات النهج الرأسمالي، ومن ثم فإنها لا يمكنها أن تتخلف عن ركب تلك الدول فيما تراه تهديداً للقيم والمبادئ والإجراءات التي تؤمن بها وتعتمدها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– القلق من إقدام كوريا الشمالية على تصعيد أكبر: </strong>من الملاحظ وجود تمايز بين الموقف الكوري الجنوبي والموقف الأمريكي ومواقف الكثير من الدول الأوروبية، تجاه مسألة تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا؛ حيث لم تقدم سيول مساعدات عسكرية نوعية على غرار ما فعلت باقي الدول الأخرى. وربما يرجع ذلك إلى طبيعة الإدارة الحالية في كوريا الجنوبية من ناحية؛ حيث اعتبر الرئيس الكوري الجنوبي مون جي أن الحرب في أوكرانيا قد أدت إلى ما سمَّاه "تضخم الحرب الباردة". ومن ناحية ثانية، حتى لا يصل الغضب الروسي على سيول ذروته، الذي قد ينعكس بعضه تصعيداً كورياً شمالياً.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>إذ قد تشهد الأجواء في شبه الجزيرة الكورية توتراً وتصعيداً أكبر، خاصةً على ضوء استمرار كوريا الشمالية في تجاربها الصاروخية، بما في ذلك البعيدة المدى. وتتخوَّف سيول كذلك من إقدام بيونج يانج على تجربة نووية جديدة، لكن إذا استمرت الحرب في أوكرانيا إلى أن يتولى الرئيس المنتخب يون سيوك يول مهامه في شهر مايو المقبل، فمن الوارد أن تغير كوريا موقفها الخاص بالإمدادات العسكرية لأوكرانيا، خاصةً أن الرئيس المنتخب مع سياسة التشدد أكثر حيال بيونج يانج، وتعميق أكثر للعلاقات مع واشنطن، وترميم العلاقات مع طوكيو، وعدم التساهل مع الصين.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">معضلة الاقتصاد</span></strong></p>



<p><strong>توجد تكلفة اقتصادية للموقف الكوري الجنوبي من الحرب في أوكرانيا. ويقتضي هذا الأمر تعاملاً كورياً مع ما يترتب على ذلك. ويمكن استعراض أبرز التكاليف الاقتصادية لحرب أوكرانيا على كوريا الجنوبية من خلال ما يأتي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– إرباك حسابات الطاقة في داخل كوريا الجنوبية: </strong>ساهمت الحرب في أوكرانيا في رفع أسعار الطاقة إلى معدلات غير مسبوقة. وفي ضوء أن كوريا الجنوبية بلد يعتمد بكثافة على إمدادات الطاقة من الخارج، فهذا يعني زيادة فاتورة استيراد مصادر الطاقة. ومن ثم ارتفاع أسعار مشتقاتها في الداخل. كما ستواجه سيول صعوبات فيما يتعلق بسداد ثمن ما تستورده من نفط وغاز روسي على ضوء قرار موسكو تحصيل الأثمان بالروبل لا بالدولار ولا باليورو. ولا تستورد سيول من موسكو النفط والغاز فقط، بل تستورد منها الفحم أيضاً، وهناك صناعة كورية جنوبية مهمة تعتمد بكثافة على الفحم الحجري الروسي، وهي صناعة الأسمنت.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تقييد الصناعات التكنولوجية المتقدمة بالبلاد: </strong>هناك منتجات أولية أخرى تصدرها كل من روسيا وأوكرانيا وتحتاجها الصناعة الكورية الجنوبية، خاصةً الصناعات التكنولوجية المتقدمة، وتحديداً الشرائح التي تدخل في تصنيع الكثير من المنتجات؛ حيث تستورد كوريا الجنوبية 23% من احتياجاتها من غاز النيون من أوكرانيا، و5% من روسيا، بينما تستورد النسبة الكبرى من هذه المادة من الصين. وكما هو واضح فإن النسبة المستوردة من أوكرانيا ليست بالهينة. وما يحدث في أوكرانيا يعني طلباً متزايداً على المصادر الأخرى، بما فيها المصدر الصيني. وحتى لو كانت هذه المصادر قادرة على تعويض النقص الذي تسبب فيه إيقاف الإمدادات الأوكرانية والروسية، فإن ذلك يعني تصاعداً في الأسعار.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– الحاجة إلى تقديم دعم إضافي للشركات المتضررة: </strong>تحتاج كوريا الجنوبية إلى نفقات إضافية لتعويض الشركات المتأثرة بالأزمة الأوكرانية مع المتأثرة بأزمة كورونا، خاصةً الشركات الصغيرة والمتوسطة. وعدد الشركات التي تتعامل تجارياً مع السوقين الروسية والأوكرانية ليست قليلة، وإن كانت أكثر بكثير مع روسيا. وهنا تكفي الإشارة إلى أن عدد الشركات التي صدَّرت منتجات إلى البلدين في العام الماضي قد بلغ 7700 شركة منها 5400 شركة صدرت إلى روسيا وحدها. وتعتبر روسيا إحدى الأسواق المهمة لصادرات السيارات الكورية، ويوجد لبعض شركات السيارات الكورية مصانع في روسيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">حركة مكبلة</span></strong></p>



<p><strong>وختاماً، لا شك أن موقف كوريا الجنوبية من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا يُعلي قيمة سيول لدى واشنطن وحلفائها الأوروبيين. وفي المقابل، فإن هذا من شأنه أن يوتر العلاقات مع روسيا. وقد اعترف السفير الروسي في سيول مؤخراً بذلك، حينما أشار إلى أن مسار العلاقات بين روسيا وكوريا الجنوبية الذي شهد تطورات إيجابية على مدار سنوات سوف يتغير. كما يُلاحَظ تسبُّب الحسابات الاقتصادية، والقلق من تداعيات الأزمة على أمن شبه الجزيرة الكورية، في تكبيل موقف سيول تجاه الأزمة نوعاً ما.</strong></p>

      

كيف يمكن فهم موقف كوريا الجنوبية من الأزمة الأوكرانية؟