إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

وقعت الجزائر في 22 يناير 2025 خلال استقبالها قائد "أفريكوم"، مذكرة تعاون في مجال الدفاع مع الولايات المتحدة، بجانب إعلان وزارة الطاقة الجزائرية عن توقيع الوكالة الوطنية لتثمين موارد المحروقات اتفاقية مع شركة "شيفرون" الأمريكية للتعاون في التنقيب البحري، في خطوة تؤشر على رغبة الجزائر في تعزيز الانعطافة غرباً، وتوسيع مساحات التعاون مع واشنطن. وجاء هذا التعاون في ظل توتر مكتوم بين الجزائر وروسيا على خلفية التوغل الروسي في منطقة الساحل والصحراء؛ ما أدى إلى إعادة هندسة التحالفات في الحديقة الخلفية للجزائر لمصلحة قوى إقليمية ودولية مُنافسة، كما تزامن الاتفاق مع سياق عالمي يتسم بالمزيد من الاضطراب والترقب بعد وصول "ترامب" إلى السلطة، بالإضافة إلى تصاعد التهديدات الإرهابية في الجوار الإقليمي للجزائر.سياقات محركةثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء انعطافة الجزائر غرباً في التوقيت الحالي، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– تحييد التحركات الروسية في جوار الجزائر: لا تنفصل التحركات الجزائرية بشأن تطوير العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية عن رغبتها في الرد على السياسات الروسية في غرب أفريقيا، التي لا تتسق مع مصالحها. وفي رؤية الجزائر، فإن موسكو في إطار سعيها لتوسيع نفوذها في غرب أفريقيا، ساهمت في تغذية المشاعر المناهضة للجزائر، كما تدرك الجزائر أن خسارتها جانباً من نفوذها التقليدي في المنطقة، وتوتر علاقاتها الحالية مع دول الساحل والصحراء يعود إلى دعم موسكو الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة خلال العامين الماضيين، وهو ما تجلى على سبيل المثال في استقواء مالي بالدعم الروسي، وشن حرب ميدانية على مجموعات موالية للجزائر في المنطقة الحدودية بين البلدين تحت غطاء مكافحة التنظيمات الإرهابية.2– تليين مواقف إدارة "دونالد ترامب": وفقاً للعديد من التقديرات، تسعى الجزائر، من خلال تطوير العلاقات الدفاعية والاقتصادية مع واشنطن في التوقيت الحالي، نحو تحسين العلاقة مع إدارة دونالد ترامب، التي يحمل بعض أفرادها توجهات صلبة تجاه الجزائر، وخاصة "ماركو روبيو" وزير الخارجية الجديد، بالإضافة إلى حرص الجزائر على تبني مقاربات جديدة يمكن من خلالها تليين مواقف "ترامب" بشأن قضية الصحراء، من خلال دفعه نحو إعادة تقييم اعترافه السابق في ديسمبر 2020م بمغربية الصحراء.وعلى ضوء ذلك، تراهن الجزائر، من خلال الاتفاقية الدفاعية الجديدة مع واشنطن، وقبلها لقاء رئيس الحكومة الجزائرية مع السفيرة الأمريكية بالجزائر "إليزابيث مور أوبين" في 21 يناير 2025، على إيصال رسالة إلى الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة "ترامب"، مفادها أن ثمة فرصاً اقتصاديةً وعسكريةً للشراكة، بجانب تأكيد دور جزائري فاعل في المنطقة لصناعة الاستقرار وتأمين المصالح الأمريكية.3– موازنة التقارب الأمريكي المغربي: يرتبط التقارب الجزائري مع واشنطن في جانب منه، بالرغبة في موازنة التقارب الحاصل بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وهو التقارب المرشح لمزيد من التطور الإيجابي بعد وصول "ترامب" إلى البيت الأبيض؛ حيث من المتوقع أن يستمر الرئيس الأمريكي الجديد في تعزيز موقفه الإيجابي بشأن تأكيد مغربية الصحراء الغربية من خلال توسيع الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء، بالإضافة إلى الضغط على الحلفاء والشركاء لإقرار الموقف نفسه.كما تخشى الجزائر من توجُّه إدارة "ترامب" نحو إعادة تصنيف جبهة البوليساريو جماعة إرهابية؛ وذلك في ضوء ارتباطها بإيران. وثمة تحليلات تُشير إلى احتمال تزايُد التعاون الدفاعي بين واشنطن والرباط خلال الآونة المقبلة لمواجهة التهديدات الأمنية، ومنها التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، لا سيما أن "ترامب" يعتبر المغرب من الحلفاء الموثوقين في المنطقة.4– تصاعد التوترات الدبلوماسية مع أوروبا: تُعتبر التوترات الدبلوماسية حول الملفات الشائكة بين الجزائر وبعض القوى الأوروبية، وخاصةً فرنسا وإسبانيا، أحد المحاور الرئيسية لانعطافة الجزائر ناحية واشنطن، باعتبار ذلك إحدى الآليات التي يُمكن توظيفها في تحييد الضغوط الأوروبية على الجزائر، وكان آخر مظاهرها دعوة لائحة أصدرها البرلمان الأوروبي في 23 يناير 2025، السلطات الجزائرية إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن الكاتب الجزائري الفرنسي بوعلام صنصال، بجانب كل "السجناء السياسيين"، كما أدانت اللائحة بصيغة حادة الوضع الحقوقي في الجزائر.بالتوازي، توترت العلاقات الفرنسية الجزائرية، بعد دعوة وزير الداخلية الفرنسي في 20 يناير 2025، لإنهاء العمل باتفاق 1968 الموقع مع الجزائر، الذي يمنح الجزائريين مزايا عديدة من حيث شروط السفر إلى فرنسا والإقامة، بالإضافة إلى استمرار الخلافات المتعلقة بقضايا الذاكرة والإرث الاستعماري والهجرة غير النظامية، كما تصاعدت حدة التوتر مع إسبانيا بعد اختطاف جماعة مسلحة بجنوب الجزائر في 16 يناير 2025 مواطناً يحمل الجنسية الإسبانية، وهو ما دفع مدريد نحو توجيه اللوم إلى الجزائر على عدم اتخاذ الإجراءات الأمنية اللازمة لحماية مواطنيها.مسارات محتملةعلى ضوء استمرار محددات حاكمة في العلاقات الجزائرية الأمريكية، فإن ثمة مسارات محتملة متباينة بشأن مستقبل العلاقة بين البلدين، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:1– تطوير التعاون الجزائري الأمريكي: وفقاً لهذا السيناريو، ورغم التوترات السياسية التي ظهرت في ولاية "ترامب" الأولى على خلفية اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء الغربية؛ قد تسعى الجزائر إلى تعزيز التعاون مع واشنطن خلال المرحلة المقبلة. ويُغذي هذا المسار مؤشرات عدة؛ أولها: توقيع مذكرة تفاهم للتعاون الدفاعي بين البلدين خلال اجتماع بين نائب وزير الدفاع الجزائري السعيد شنقريحة، وقائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) مايكل لانجلي، في 22 يناير 2025.&nbsp;ويبدو هذا التعاون مرشحاً للتزايد بقوة، خصوصاً أن الميزانية الدفاعية للجزائر وصلت إلى مستوى قياسي خلال عام 2025م، وتُقدر بنحو 25 مليار دولار. وثانيها: دفع مشاريع التعاون في قطاع الطاقة بين البلدين؛ حيث أبرمت الجزائر اتفاقاً مع شركة شيفرون الأمريكية، للتعاون في التنقيب البحري، في 22 يناير 2025. وتؤشر هذه الخطوة على احتمال استمرار الاستثمارات الأمريكية في الجزائر، لا سيما في قطاعات الطاقة والبنية التحتية، كركيزة للتعاون الذي يتجاوز الخلافات السياسية.وثالثها: عودة النشاط العملياتي للتنظيمات الإرهابية في الجوار الجغرافي للجزائر، بعد سقوط نظام "الأسد" في سوريا، وهو ما يفرض على الجزائر أعباء أمنية إضافية. ورابعها: التصريحات الجزائرية التي كشفت عن عمق الاهتمام بدفع العلاقة مع واشنطن، وأهمها تأكيد قائد أركان الجيش الجنرال "سعيد شنقريحة" خلال لقائه قائد "أفريكوم"، عمقَ العلاقات التاريخية بين البلدين، وأضاف: "الديناميكية الإيجابية التي يعرفها التعاون العسكري الثنائي تعكس إرادة الجزائر للارتقاء بهذه الشراكة إلى أعلى المستويات، بما يخدم مصالح البلدين".2– استمرارية الخلاف حول الملفات الشائكة: يشير هذا السيناريو إلى احتمال عدم تأثير اتفاقية الدفاع والتنقيب عن مكامن الطاقة على تحقيق اختراق جذري في العلاقة بين الجزائر وواشنطن خلال المرحلة المقبلة؛ لعدة اعتبارات؛ منها رفض الجزائر المقاربة الأمريكية حيال قضية الصحراء الغربية؛ إذ إن النزاع حول الصحراء الغربية يمثل حجر الزاوية في التوترات بين البلدين، خصوصاً مع احتمال توجه إدارة "ترامب" نحو الاستمرار في دعم خطة الحكم الذاتي المغربية؛ ما يعني وضع العلاقة بين البلدين في مواجهة مباشرة، كما أن ثمة غضباً أمريكياً من تعاون قائم بين تنظيم "داعش" وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر؛ حيث تشير العديد من التقديرات إلى انتماء عدد غير قليل من مقاتلي "داعش" إلى منطقة الصحراء الغربية.يضاف إلى ذلك تأثير العلاقات الجزائرية الروسية؛ فبرغم التوتر غير المعلن بين موسكو والجزائر، فإن العلاقات بين البلدين لا تزال قوية، وظهر ذلك في زيارة كلٍّ من نائب وزير الخارجية والممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا "ميخائيل بوجدانوف"، ونائب وزير الدفاع الروسي إلى الجزائر في 21 ديسمبر 2024، بالإضافة إلى تأكيد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في 6 أكتوبر 2024 أن "العلاقة بروسيا تاريخية ومبنية على الصداقة والمصالح المشتركة"، وهو ما يثير قلق واشنطن.3– حدوث تقارُب محدود بين البلدين: وفقاً لهذا السيناريو، يُرجح أن تتجه العلاقات الأمريكية الجزائرية نحو تحقيق تقارب محدود في عدد الملفات؛ فقد تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تعزيز التفاهمات مع الجزائر في ملف مكافحة التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، بالإضافة إلى محاولة توظيف العلاقة مع الجزائر لتحييد التحركات الروسية في أفريقيا. ومن جانبها، قد تُبدِي الجزائر انفتاحاً أكبر على واشنطن لتأمين وارداتها الدفاعية بعد فتور العلاقة مع موسكو، كما تُعوِّل الجزائر على تطوير العلاقة مع واشنطن في التوقيت الحالي، تحييد الضغوط الغربية عليها، وبخاصة الضغط الفرنسي في الملفات الخلافية.أولوية برجماتيةختاماً، يمكن القول إن انعطافة الجزائر تجاه واشنطن، ترتبط في جانب واسع منها بالرغبة في تفكيك الصورة النمطية للجزائر في الذهنية الغربية، التي تُدرك مدى الارتباط القوي بين الجزائر وموسكو، وهو الأمر الذي عرَّضها لمزيد من المتاعب والضغوط الدولية. وعلى ضوء ذلك، ترى الجزائر أن دعم العلاقات الدفاعية بجانب مشاريع الطاقة مع واشنطن في التوقيت الحالي يمثّل أولوية برجماتية، خصوصاً في ظل تعقيدات الأوضاع الإقليمية في محيط الجزائر، والمخاوف من تأثيرات عودة "ترامب" على بعض الملفات الحيوية للجزائر، وأهمها ملف الصحراء.

محفزات التقارب بين الجزائر والولايات المتحدة