إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

طرح حزب العمال الكردستاني، في 17 يناير 2025، مبادرة لوقف التصعيد الدائر في شمال شرق سوريا بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وتتضمن موافقة الكردستاني على مغادرة قواته من مناطق الإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري مقابل احتفاظ "قسد" بالسيطرة في مناطق شمال شرق سوريا، في إطار صيغة حكم فيدرالي، أو على الأقل ضمان حصة كبيرة لأكراد سوريا في تشكيل النظام السياسي الجديد في سوريا. وارتبطت دعوة حزب العمال الكردستاني بمحاولة تحييد الضغوط العسكرية للجماعات المدعومة من تركيا على "قسد"؛ حيث تقود منذ 30 نوفمبر 2024 عملية عسكرية باسم "فجر الحرية"، وتستهدف اجتثاث المشروع الكردي السوري.ويبدو أن ثمة رغبةً لدى حزب العمال الكردستاني في تخفيف الضغوط على "قسد" في ظل التحولات الإقليمية والدولية التي أنتجتها عملية سقوط نظام الرئيس السوري "بشار الأسد"، وكان من أهم تداعياتها على واقع الإدارة الذاتية الكردية دعوة قوى أوروبية الأكراد إلى التخلي عن السلاح، والانخراط في المشهد السوري الجديد، وهو ما يعني، في رؤية حزب العمال الكردستاني، انهيار المكاسب التي حققتها "قسد" خلال العقد الماضي.دوافع عديدةيمكن تفسير مبادرة حزب العمال الكردستاني في إطار عدد من العوامل الضاغطة، التي تؤثر على الإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، وتشكل تهديدات متصاعدة في التوقيت الحالي، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– تزايد عنف الفصائل الموالية لتركيا ضد "قسد": شهدت مناطق شمال شرق سوريا، خلال الشهرين الماضيين، زيادة في معدلات عنف الفصائل السورية المرتبطة بتركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، ومنها "أحرار الشام" و"العمشات" و"الحمزات" و"السلطان مراد" وفصائل أخرى تُموِّلها تركيا. وزادت المواجهات بين الفصائل الموالية لتركيا والقوى الكردية بعد سقوط نظام "الأسد"؛ حيث عمدت الأولى إلى توظيف الأوضاع السورية، بالإعلان عن ضرورة تفكيك الإدارة الذاتية الكردية، والتهديد بالتدخل المباشر في شمال شرق سوريا، ووصل الأمر إلى تهديد الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان"، في 25 ديسمبر 2024، أكراد سوريا بضرورة إلقاء أسلحتهم وإلا فسيُدفَنون معها.2– تعزيز تركيا نفوذها في سوريا بعد سقوط "الأسد": نجحت تركيا، بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا، في إعادة تموضعها في الداخل السوري، وتعزيز نفوذها بعد تراجع ملحوظ للحضور الإيراني والروسي، وهو الأمر الذي وفر بيئة خصبة لتركيا لتعزيز الضغوط على وحدات حماية الشعب الكردية، خصوصاً في ظل صمت هيئة تحرير الشام، وغض الحكومة الانتقالية السورية الطرف عن التحركات العسكرية التركية ضد الأكراد شمال شرق سوريا، بما يمنح تركيا القدرة على تحقيق قدر من الاستقلالية لتحركاتها ضد الكيان الكردي.3– تراجع مستوى الدعم الغربي للأكراد السوريين: لا تنفصل مبادرة حزب العمال الكردستاني عن التراجع الملحوظ في مواقف الدول الغربية الداعمة للإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري؛ فبينما دعا الاتحاد الأوروبي أكراد سوريا إلى التخلي عن السلاح والانخراط في المشهد السوري الجديد، فإن ثمة مخاوف من موقف الإدارة الأمريكية برئاسة "دونالد ترامب"، الذي تحدث عن أن "سوريا دولة غير صديقة"، وأنه "لا مصلحة أمريكية في بقاء عناصر الجيش الأمريكي شمال شرق سوريا"، فضلاً عن دعمه سياسة الرئيس "أردوغان"، الذي تجمعه به علاقة شخصية وطيدة.بالتوازي مع ذلك، زادت المخاوف الكردية بعد زيارة قائد القيادة العسكرية الأمريكية الوسطى "سنتكوم" الجنرال "مايكل كوريلا"، إلى شمال شرق سوريا في 17 يناير 2025، وتأكيده ضرورة إعادة مقاتلي "داعش" الأجانب إلى أوطانهم، وهي دعوة – بحسب العديد من المراقبين – سوف تُربِك حسابات "قسد"، التي ترى في مهمة إدارة مراكز احتجاز الآلاف من المقاتلين الأجانب ورقة رئيسية لديها. وقد كان ذلك محل توافق بين واشنطن وأنقرة التي تدعو بدورها في التوقيت الحالي إلى ضرورة إعادة المقاتلين الأجانب والمحسوبين على "داعش" إلى أوطانهم؛ وذلك لسحب هذه الورقة من يد "قسد" التي تمثل نقطة استناد استراتيجية لها في العلاقة مع الغرب، وتضمن من خلالها مواصلة الدعم الغربي.4– إفساح المجال لجهود الوساطة بين تركيا و"قسد": تشير بعض التقديرات إلى أن مبادرة حزب العمال الكردستاني تأتي في إطار الرغبة في إفساح المجال لجهود الوساطة التي تسعى إلى خفض التصعيد بين تركيا وقوات "قسد"، خصوصاً بعد انخراط زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني "مسعود بارزاني" المقرب من أنقرة في الأزمة الحالية، ولقائه في 16 يناير 2025 بـ"مظلوم عبدي" قائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بهدف تحييد الضغوط التركية على "قسد".كما أن مبادرة حزب العمال الكردستاني تأتي في خضم جهود يقودها حزب الحركة القومية الكردي وشريك الحزب الحاكم في السلطة لإنهاء الصراع التركي مع الأكراد، من خلال دعوته في أكتوبر 2024 إلى إطلاق سراح زعيم حزب العمال الكردستاني "عبد الله أوجلان" مقابل إلقائه خطاباً أمام البرلمان التركي يعلن فيه تفكيك حزب العمال الكردستاني، والانخراط في مفاوضات سلام مع تركيا، وهي الدعوة التي لاقت ترحيباً من "أوجلان" وقوى كردية معتبَرة.5– احتواء دعم السلطة السورية الجديدة لأنقرة: يعي حزب العمال الكردستاني العلاقة الخاصة التي تجمع أنقرة والإدارة السورية الجديدة بقيادة "أحمد الشرع"؛ حيث تعتمد الأخيرة في التوقيت الحالي على أنقرة في تلبية جانب من الاحتياجات ذات الأولوية، خاصةً الطاقة، فضلاً عن الحاجة إلى الدور التركي في تعزيز صورة الإدارة السورية.وهنا يمكن تفسير تصريحات وزير الخارجية السوري "أسعد الشيباني" عشية زيارته إلى تركيا في 15 يناير 2025، عندما أكد رفض دمشق أي "تهديد" يستهدف تركيا من أراضيها، في إشارةٍ إلى المقاتلين الأكراد في شمال سوريا. وفي ضوء ذلك، ربما أراد حزب العمال الكردستاني قطع الطريق على تركيا لتبرير تدخلاتها ضد الأكراد شمال شرق سوريا، أو تعزيز الضغوط على إدارة "أحمد الشرع" لإقصاء التيار الكردي السوري من المعادلة المستقبلية لسوريا الجديدة.تحديات معرقلةيقتنع حزب العمال الكردستاني بأن وجوده في شمال سوريا يمثل إحدى ذرائع أنقرة لمواصلة تدخلاتها العسكرية ضد أكراد سوريا، ومن ثم يمكن تفسير إقدامه على تقديم تنازلات تكتيكية لتفادي الضغوط الكبيرة التي تواجهها "قسد"، على الصعيدين السياسي والميداني، وكذلك طرحه مبادرة تتضمن إمكانية مغادرة شمال سوريا مقابل تأمين مكتسبات الإدارة الذاتية الكردية.بيد أن ثمة تحديات تشير إلى احتمال تعثر هذه المبادرة: أولها ضعف الثقة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. ويمثل ذلك تحدياً رئيسياً أمام نجاح مبادرة الحزب؛ فتركيا ما زالت تصنفه كمنظمة إرهابية، بينما تصر قيادات معتبرة داخل حزب العمال الكردستاني على ضرورة مواصلة توظيف القوة الصلبة ضد تركيا باعتبار ذلك أحد المداخل المهمة لحماية المشروع الكردي في الإقليم. وثانيها أن التطورات السورية الحالية بعد سقوط "الأسد" تمثل، في رؤية تركيا، فرصة للقضاء على الطموحات الكردية في سوريا، وتفكيك المؤسسات الكردية التي تشكلت بعد عام 2011 في شمال شرق سوريا. ومن ثم فإن مبادرة الكردستاني قد تصطدم بموقف تركي غير مرحِّب.وثالثها تراجع دور الفاعلين الرئيسيين على الساحة السورية، وخاصةً موسكو وطهران، بالإضافة إلى فتور المواقف العربية حيال الإدارة الذاتية الكردية، وهو ما قد ينعكس على فشل مبادرة حزب العمال الكردستاني. ورابعها إصرار أنقرة على اتهام وحدات حماية الشعب الكردية – وهي العمود الفقري لـ"قسد" – بأنها الفرع السوري لحزب "العمال" الكردستاني المصنف على لوائح الإرهاب الخاصة بتركيا؛ ما يعني أنها تعتبر "قسد" جماعة إرهابية. وخامسها عدم دعم الإدارة السورية الجديدة للمبادرة، رغم أن "قسد" حاولت في الآونة الأخيرة فتح قنوات حوار مع "الشرع"، على أمل التوصل إلى تسوية سياسية، تضمن لها حكماً ذاتياً أو تحييد الضغوط التركية.تفاعل مفقودوختاماً، يمكن القول إن مبادرة حزب العمال الكردستاني بشأن إمكانية مغادرة قواته من شمال شرق سوريا، تأتي إدراكاً لطبيعة التهديدات والمخاطر التي تشهدها مناطق نفوذ "قسد" بفعل التهديدات التركية والفصائل الموالية لها، وانعكاساتها على مستقبل الإدارة الذاتية الكردية خلال الفترة المقبلة. ولكن يبقى نجاح مبادرة حزب العمال الكردستاني مرهوناً بمدى تفاعل تركيا معها، وهو أمر غير مرجح بالنظر إلى رغبة تركيا في مواصلة توظيف القوة الصلبة ضد حزب العمال الكردستاني وروافده في شمال سوريا والعراق.

ما فرص نجاح مبادرة حزب العمال الكردستاني لخفض التصعيد بشمال سوريا؟