إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

أثارت التصريحات التي أدلى بها مساعد الرئيس للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف، خلال مشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس، في 22 يناير 2025، جدلاً واسعاً داخل إيران، حيث شن تيار المحافظين الأصوليين ووسائل الإعلام القريبة منه، وتلك التابعة للحرس الثوري، حملة قوية ضده، توازت مع تحركات سياسية جديدة من جانب هذا التيار لإقالته من منصبه عبر محاولة تفعيل قانون "تعيين الأشخاص في الوظائف الحساسة"، والذي يحاول استغلال جنسية أبناء ظريف –الذين يقال إنهم حاصلون على الجنسية الأمريكية- كمبرر لاستبعاده من منصبه، باعتبار أن توليه هذا المنصب غير قانوني.فقد نشرت صحيفة "كيهان" الأصولية المقربة من مكتب المرشد المانشيت الرئيسي لعددها الصادر في 28 يناير 2025، بعنوان "اعتراض نواب الأمة على رسائل الذل التي وجهها ظريف إلى ترامب في دافوس"، وحرصت وسائل إعلام عديدة على التماهي معها في هذا الصدد. ووجهت بعض مكاتب الباسيج في الجامعات، ولا سيما جامعة طهران، انتقادات لاذعة إلى ظريف الذي وصفته بأنه "شخص في منصب غير قانوني في الحكومة، وغير مؤهل لتمثيل الجمهورية الإسلامية"، وسبق ذلك حملة مماثلة تعرض لها الرئيس مسعود بزشكيان عندما أدلى بحديث إلى شبكة "NBC" الأمريكية، في 15 يناير 2025، وعرض فيه إمكانية الانخراط في مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الوصول إلى صفقة نووية تنقذ الاتفاق النووي الحالي.دوافع عديدةهنا، يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة تدفع هذا الاتجاه إلى رفض التفاوض مع واشنطن، ويتمثل أبرزها في:1- فقدان الثقة في سياسات الرئيس الأمريكي ترامب: يرى هذا الاتجاه أنه لا يمكن الثقة مجدداً في السياسات التي يتبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خاصة أنه سبق أن انسحب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، على نحو وجه ضربة قوية إلى هذا الاتفاق، الذي تحول -وفقاً لها- إلى مجرد "حبر على ورق"، بعد أن فضلت الشركات الأجنبية التي كانت تستثمر في إيران الانسحاب من الصفقات التي أبرمتها مع شركات إيرانية تجنباً للتعرض لعقوبات أو الاضطرار إلى دفع غرامات.كما واجهت إيران صعوبات منذ هذه اللحظة في تصدير نفطها. صحيح أن مستوى صادراتها النفطية وصل إلى نحو 1.5 مليون برميل نفط يومياً، أي بمعدل 60% تقريباً من المستوى الذي وصلت إليه قبل فرض العقوبات الأمريكية، لكن الصحيح أيضاً أن ذلك تم بسبب تغاضي إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن عن تعقب الصادرات النفطية أو تقليصها إلى مستوى "صفر"، في ظل تطلعها إلى إجراء مفاوضات والوصول إلى صفقة مع إيران، قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية في المنطقة بداية من 7 أكتوبر 2023.2- صعوبة الحصول على تعهد أمريكي بعدم الانسحاب من أي اتفاق نووي: يحرص هذا الاتجاه على التحذير من أن صفقة قد يتم الوصول إليها مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول البرنامج النووي، قد لا تكون لها قيمة كبيرة، إلا في حالة ما إذا تضمنت تعهداً أمريكياً بعدم الانسحاب مجدداً من الاتفاق، وهو مطلب صعب التحقق، باعتبار أن أي إدارة أمريكية سوف ترفض ذلك، بل إن إدارة بايدن سبق أن أعلنت أن الرئيس لا يستطيع تقديم تعهد بهذا الشكل يقيد به صلاحيات الرئيس الذي سيخلفه في المنصب.ومن دون شك، فإن ما يزيد من حرص إيران على الحصول على هذا التعهد هو أنها سوف تقدم تنازلات نوعية في المقابل، على غرار التخلص من الكميات الضخمة التي أنتجتها من اليورانيوم المخصب، والتي تجاوزت 6 آلاف كلجم بنسب مختلفة، بما يعني أنها تعادل 32 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كلجم)، ذلك إلى جانب التخلص من كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% والتي وصلت إلى نحو 200 كلجم حسب تصريحات المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل جروسي في 22 يناير 2025.3- إمكانية تصعيد ترامب لضغوطه في حال الاستجابة الأولية لشروطه: يستبعد هذا الاتجاه أن يكتفي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالوصول إلى صفقة مع إيران تتعلق حصراً بالبرنامج النووي، بل إنه قد يتطلع إلى صفقة أكثر شمولاً من ذلك، وتتصل بحضور إيران في الإقليم وعلاقاتها الخارجية، والسياسة التي تتبناها في التعامل مع بعض الأزمات، وهي مطالب تمس السيادة الوطنية، وتمثل خللاً في أداء الدولة لوظائفها الحيوية.وهنا، فإن هذا الاتجاه يرى أن ترامب سوف يحاول استغلال التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية في أعقاب اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان، بداية من 7 أكتوبر 2023، والتي أدت إلى القضاء على القسم الأكبر من القدرات العسكرية لوكلاء إيران مثل: حركة حماس الفلسطينية، وحزب الله اللبناني، فضلاً عن أنها كانت سبباً أساسياً في انهيار نظام الرئيس السوري بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024.ويبدو أن هذا الاتجاه يستند إلى المطالب الـ12 التي كان الرئيس ترامب قد تبناها في إدارة التصعيد مع إيران خلال ولايته الأولى، وأعلن عنها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مايك بومبيو، في 21 مايو 2018، كمبرر لتأكيد أن ترامب سوف يسعى إلى ممارسة ضغوط على إيران للحصول على تنازلات تنتقص من سيادة الأخيرة.4- المخاوف من تهديد التفاوض مع واشنطن لاستقرار النظام الإيراني: يعتبر هذا الاتجاه أن التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية قد يفرض تداعيات سلبية خطيرة على النظام الإيراني في الداخل، خاصة في ظل المرحلة الحالية التي يواجه فيها ضغوطاً لا تبدو هينة على الساحة الداخلية، ولا سيما بعد أن بدأت قوى عديدة في محاولة استغلال حالة الضعف التي يبدو عليها بعد سقوط نظام الأسد والقضاء على القدرات العسكرية للوكلاء، من أجل تعزيز قدرتها على تهديد بقاء النظام في السلطة.فضلاً عن ذلك، فإن فتح الباب أمام التفاوض مع واشنطن سوف يشجع تيارات داخلية، لا سيما الإصلاحيين، على الدعوة إلى تحسين العلاقات معها وصولاً إلى إقامة علاقات دبلوماسية، وهو ما يعتبره هذا الاتجاه "فخاً" قد يهدد النظام الإيراني الذي يعتمد على "مناوأة الشيطان الأكبر" كإحدى الركائز الثلاث التي يتأسس عليها إلى جانب "مقاومة إسرائيل" و"الحجاب".5- تهديد المصالح الاقتصادية لبعض المؤسسات الإيرانية: لا تنفصل التحذيرات التي يطلقها هذا الاتجاه عن التخوفات التي تبديها بعض المؤسسات من التداعيات الاقتصادية للمفاوضات مع واشنطن. إذ إن هذه المفاوضات قد تؤدي إلى إبرام صفقة جديدة، وبالتالي تساعد في رفع العقوبات الدولية والأمريكية المفروضة على إيران، على نحو سوف يشجع الشركات الأجنبية على الانخراط في استثمارات وصفقات اقتصادية ضخمة داخل إيران.ومن دون شك، فإن هذا الاحتمال يُعتبر سيئاً بالنسبة لمؤسسات كثيرة، ولا سيما الحرس الثوري، الذي استغلت الشركات الاقتصادية التابعة له انسحاب الشركات الأجنبية من الاستثمار في إيران لملء الفراغ وتعزيز المكاسب الاقتصادية. ومن هنا أيضاً ربما يمكن تفسير أسباب تحفظ هذا الاتجاه تحديداً إزاء تفعيل اتفاقيتي الشراكة الاستراتيجية اللتين وقعتا مع الصين في 27 مارس 2021، ومع روسيا في 16 يناير 2025، باعتبار أن هاتين الاتفاقيتين يمكن أن تقلصا من حجم المكاسب الاقتصادية التي تحصل عليها الشركات التابعة للحرس الثوري.مناورة سياسيةختاماً، يمكن القول إن النظام الإيراني دائماً ما يمنح الضوء الأخضر لهذا الاتجاه من أجل شن حملات ضد الاتجاه الآخر الداعم للتفاوض مع واشنطن، باعتبار أن ذلك يمثل قسماً من سياسة "تقسيم الأدوار" التي يتبناها النظام في معظم الحالات، من أجل توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامه استباقاً لتبلور معالم السياسة التي سوف تتبعها إدارة ترامب تجاه إيران خلال المرحلة القادمة.

لماذا يرفض اتجاهٌ في إيران خيارَ التفاوض مع واشنطن؟