تمثل أوكرانيا همزة الوصل بين موسكو ودول الاتحاد الأوروبي؛ ما جعلها منطقة صراع للنفوذ بين الطرفين. ويعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أوكرانيا وبيلاروسيا هما في الأساس جزءان من روسيا، ثقافياً وتاريخياً. وقد حدد أهدافاً واضحة لغزو أوكرانيا؛ تتمثل في سحب السلاح، وقطع علاقاتها العسكرية مع حلف شمال الأطلسي، ووضع حد لطموحات الشعب الأوكراني للانضمام إلى المعسكر الغربي في أوروبا.

وقد دخل الغزو الروسي لأوكرانيا شهره التالي؛ حيث تعددت السيناريوهات المحتملة لما سيحدث بعدُ، خاصةً أنها بدأت كحرب خاطفة، ثم تحولت إلى "حرب مدن"؛ حيث توالت عمليات الضرب المكثف الذي تمخض عنه العزل والحصار والسيطرة على المطارات؛ الأمر الذي أدى إلى مأساة ضاغطة على النظام الدولي ككل، خاصةً مع تزايد أعداد اللاجئين والنازحين. ومن ثم ينقسم المحللون بشأن الاستراتيجية التي تعتزم روسيا اتباعها تجاه أوكرانيا؛ ففي حين يعتقد البعض أن غزواً أوسع نطاقاً لا يزال مطروحاً، يتوقع آخرون أن يُبقي بوتين على الوضع القائم الجديد، ولو في الوقت الراهن على الأقل، خاصة بالنظر إلى مقولة "أن الدخول في الحرب أمر سهل. أما الخروج منها فصعب". فما السيناريوهات الأكثر واقعيةً للطريقة التي يمكن أن تنتهي بها تلك الحرب؟

1- سيناريو الحرب القصيرة … "إضعاف أوكرانيا"

يفترض السيناريو أن تصعِّد روسيا عملياتها العسكرية؛ حيث يزداد القصف العشوائي المدفعي والصاروخي في مختلف المناطق بأوكرانيا، وقد تشن القوات الجوية الروسية، التي لم يكن لها دور كبير حتى الآن، غارات مدمرة، وأن تتعرض المؤسسات الأوكرانية الرئيسية لهجمات إلكترونية واسعة، ويتسبب قطع الاتصالات وموارد الطاقة في قتل آلاف المدنيين. وحين تتحقق للقوات الروسية السيطرة الكاملة على المدن الأوكرانية الكبرى، سوف يعلن بوتين الانتصار في أوكرانيا ويسحب بعض القوات الروسية، تاركاً جزءاً منها للسيطرة على الأوضاع. وسوف تعمد روسيا إلى عزل حكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، ومحاكمة أعضائها حال اعتقالهم، واستبدال حكومة موالية مكانها. وقد يتمكن زيلينسكي من الهروب خارج أوكرانيا، ويعلن تشكيل حكومة في المنفى تعترف بها الدول الغربية. على الجانب الآخر، سيواصل عشرات الآلاف من الأوكرانيين الخروج من البلاد، وبهذا تتحول أوكرانيا إلى دولة وضعها أشبه كثيراً بوضع بيلاروسيا حليفة موسكو وتابعتها.

2- سيناريو الحرب الطويلة … "المستنقع الأوكراني"

يتوقع هذا السيناريو أن الحرب سوف تمتد إلى صراع طويل الأمد، تفشل فيه محاولات القوات الروسية في السيطرة على المدن الأوكرانية نتيجة شراسة واستمرارية المقاومة الأوكرانية المدعومة بالأسلحة والمتطوعين من الغرب، مع ضعف معنويات القوات الروسية وارتفاع خسائرها البشرية والمادية؛ ما يجبر روسيا على تكريس أعداد وكميات أكبر من جيشها ومواردها للحفاظ على مكاسبها الميدانية في أوكرانيا. وقد وصف الكاتب الأمريكي توماس فريدمان هذا السيناريو بـ"سيناريو المصيبة الكبرى" الذي قد يتمخَّض عنه جرائم حرب لم تشهد أوروبا لها مثيلاً.

وقد تتحوَّل إلى حرب شوارع أو حرب عصابات يشنها الأوكرانيون المدعومون من متطوعين غربيين، تحول الهجوم الروسي إلى مستنقع لا يستطيع الروس الفكاك منه حتى بعد تمكن الجيش الروسي من دخول المدن الكبرى وإعلان حكومة موالية لموسكو؛ الأمر الذي يُذكِّرنا بالغزو السوفييتي لأفغانستان الذي استمر نحو عشر سنوات وانتهى بالانسحاب المهين للقوات السوفييتية. ولعل القاسم المشترك في جميع التحليلات بشأن هذا السيناريو تحديداً هو أن وقوعه مرتبط باستمرار الغرب في تقديم المساعدات العسكرية والأسلحة النوعية للمقاومة الأوكرانية.

3- سيناريو الحلول الدبلوماسية … "اتفاق السلام"

يلجأ بوتين، بسبب فداحة الخسائر وقوة العقوبات الغربية، إلى البحث عن وسيلة لحفظ ماء الوجه من أجل إنهاء الصراع، وقد تتدخل الصين وتضغط على موسكو من أجل قبولها بتنازلات، مهددةً بأنها لن تشتري الغاز والنفط من روسيا ما لم تُخفِّف حدة التوتر، وهذا يدفع بوتين إلى البحث عن مخرج. ولعل احتمالية عدم قبول أحد الأطراف هزيمةً كاملةً قد تدفع إلى الدخول في مفاوضات لحسم الموقف. ويرى الكاتب الأمريكي فريدمان أن هذا السيناريو قد يكون وارداً في حالة فشل الجيش الروسي في تحقيق انتصار عسكري حاسم وسريع من جهة، مع فشل الأوكرانيين في الحفاظ على تماسكهم من جهة أخرى؛ حينئذ يشعر الطرفان بالرغبة في قبول "حلول وسط قذرة"، تتمثل في وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الروسية. وفي مقابل ذلك، يتم التنازل رسمياً لروسيا عن شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس وتخلي كييف رسمياً عن انضمامها إلى الناتو، وفي الوقت نفسه تعلن الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون رفعاً فورياً للعقوبات التي جرى فرضها على روسيا.

4– سيناريو رحيل بوتين.. التغيير الروسي المحلي:

وهو السيناريو الأقل ترجيحاً بين سيناريوهات النهاية للهجوم الروسي على أوكرانيا، ويفترض فشل بوتين في تحقيق أي من أهدافه، فتتحول أوكرانيا إلى أفغانستان أخرى، وتظهر تداعيات العقوبات الاقتصادية ويتزايد الرفض الشعبي الروسي لغزو أوكرانيا؛ ما يقود إما إلى إقرار شخصي من بوتين بالانسحاب من المشهد تماماً، أو ينقلب عليه عدد كافٍ من السياسيين والعسكريين والنخبة. وفي الواقع يراقب بوتين المعارضة الداخلية عن كثب؛ فقد عززت حملة القمع هيمنة وسائل الإعلام الحكومية الروسية الشديدة الولاء، كما ألقي القبض على الآلاف من المتظاهرين المناهضين للحرب، وتم استحداث قانون جديد يهدد بالسجن لمدة تصل إلى 15 عاماً لنشر الأكاذيب عن الجيش، وحدوث تصدعات في النخبة الحاكمة.

5– سيناريو الحرب العالمية.. انتشار الصراع:

ويعتبر هذا السيناريو هو الأكثر خطورة؛ ليس لمستقبل أوروبا فقط، بل للنظام العالمي القائم حالياً؛ فقد تخرج الأمور عن نطاقها الحالي في أوكرانيا وتمتد إلى دول أخرى أوروبية أو حتى إلى ما هو أبعد من ذلك، بحيث تتحول إلى حرب إقليمية أوروبية يصعب السيطرة عليها، خاصة أن أوكرانيا تتقاسم حدوداً مع أربع دول أعضاء في حلف الناتو كانت سابقاً جزءاً من الكتلة السوفييتية التي لا يخفي بوتين حنينه إليها؛ الأمر الذي يطرح سؤالاً مفتوحاً حول طموحات بوتين الإقليمية؛ فقد يتطلع بعد غزو أوكرانيا إلى مولدوفا الدولة السوفييتية السابقة المحصورة بين أوكرانيا ورومانيا، ومنها إلى جورجيا. وقد يهدد بإرسال قواته إلى دول البلطيق وفتح ممر أرضي إلى الجيب الروسي الخارجي الساحلي كالينينجراد. وتتضح خطورة الأمر بالنظر إلى نص المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو على "أن أي اعتداء على عضو واحد في الحلف، اعتداء على جميع الأعضاء".

ورغم أن جميع الأطراف تسعى إلى كبح جماح تلك الحرب، فإن هذا السيناريو المحتمل قد يبدو وارداً؛ حيث يراهن بوتين على أن الغرب لن ينتقم نيابة عن أوكرانيا؛ فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تبادل إطلاق نار نووي بأسلحة "استراتيجية" أكبر، وينتهي بـ"التدمير المتبادل المؤكد"، ولن يبقى أمام أوكرانيا خيار سوى الاستسلام كما كان الحال في اليابان عام 1945، وهو ما يطلق عليه العسكريون المحنكون "استراتيجية التصعيد من أجل خفض التصعيد"، خاصةً أن العالم بعدها لن يعود كما كان.

ورغم قلة عدد من يتوقعون أن يهاجم بوتين علناً عضواً في الناتو، بما قد يلوح لخطر هجوم نووي، فإنهم حذروا من الاستفزازات التي لا تصل إلى حد إشعال فتيل الحرب؛ لذلك فتحت الولايات المتحدة وروسيا ما يسمى "خط عدم التضارب"، الذي يمكن من خلاله تبادل المعلومات العسكرية بسرعة لتقليل فرص سوء التفاهم.

ورغم أن جميع هذه السيناريوهات قد تكون واردة، واحتمال تحقق أي منها لا ينفي احتمال تحقق الآخر، فإن الأرجح أن روسيا لن تقبل بأنصاف حلول؛ فتطور الموقف قد يفتح مجالاً أمام إعادة الترتيبات الأمنية والاستراتيجية الروسية، كما أن التجارب الدكتاتورية في العالم تثبت أنه لا يوجد دكتاتور انصاع للعقل ورجع في حساباته؛ فهو يتصرف بنزعة مجده الشخصي التي يغلفها غطاء المجد القومي واستعادة التاريخ. وإذا أخذنا بسيناريو النجاح الروسي في السيطرة على أوكرانيا بالكامل، قد تتحقق أمامنا عدد من السيناريوهات المستقبلية قد تعمد إليها روسيا بعد الغزو؛ وذلك كما يأتي:

أ- تكرار سيناريو ضم القرم: اعترفت روسيا بالفعل بـ«جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك الشعبيتين» الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، كما سيطر الجيش الروسي على أجزاء أكبر، وشن هجوماً حول خاركيف أكبر مدينة في شرق أوكرانيا، وفي الجنوب، حول مدينة خيرسو، وحال تمكُّن القوات الروسية من الاستيلاء على مدينة أوديسا الأوكرانية، فمن الممكن تخيل جسر بري يمتد على طول الطريق عبر جنوب أوكرانيا، وربما يربط حتى إقليم ترانسنيستريا الانفصالي في مولدوفا؛ حيث تتمركز قوات روسية بأوديسا وجنوب وشرق أوكرانيا.

ب- تقسيم أوكرانيا: يرى المؤرخ الروسي ألكسندر إتكيند أن تقسيم أوكرانيا خطوة قابلة للتطبيق، وسيجعلها «تبدو مثل ألمانيا في حقبة الحرب الباردة»؛ حيث يصبح غرب أوكرانيا أكثر اعتماداً على أوروبا والغرب. أما الجزء الشرقي فسينضوي في مناطق النفوذ الروسية، التي تشمل بيلاروسيا. وإذا فكر بوتين في خيار التقسيم، فمن الممكن أن يصبح الجاليكيون الأوكرانيون ومدينة ليفيف، قرب الحدود البولندية، جزءاً من دولة أوكرانية، في حين تركز روسيا اهتمامها على شرق البلاد.

ج- أوكرانيا "دمية" لموسكو: يتحقق الهدف السياسي من تلك الحرب العسكرية بخلق حكومة موالية في كييف لا تتطلع غرباً؛ ليس على المستوى العسكري فقط (الانضمام إلى الناتو) بل يمتد ذلك إلى كافة المستويات. وقد حذر ضباط الاستخبارات الغربية من أن روسيا تعتزم إسقاط الحكومة الأوكرانية المنتخبة ديمقراطياً وأن تستبدل مكانَها نظاماً يتحكم فيه الكرملين، خاصةً بعد تصريح لبوتين بأن الحكومة الأوكرانية الحالية غير شرعية، ورثائه مراراً تنحية الرئيس السابق الموالي له فيكتور يانوكوفيتش عام 2014، وقال إنه سيجد بعض الساسة في أوكرانيا الراغبين في قيادة حكومة موالية لموسكو قد تُفرَض بالقوة. وحتى لو استولوا على مدن استراتيجية مثل كييف أو ميناء أوديسا الجنوبي، فسيواجه بوتين التحدي المتمثل في احتلال دولة يبلغ عدد سكانها 40 مليون نسمة؛ فأي حكومة موالية لروسيا ستكون هزيلة ومعرَّضة للتمرُّد الشعبي عليها. وسيؤدي هذا الوضع إلى حالة من عدم الاستقرار تُنذر باحتمال تجدُّد النزاع مرة أخرى.

د- الغزو وفرض الواقع بالقوة: رغم تأكيد روسيا رغبتها في ألا تكون بلداً محتلاً، فإنه يسهل عليها فرض قوانينها القمعية ضد أوكرانيا، وسيكون من الصعب على مواطني الأخيرة التعايش مع ذلك الوضع؛ فهم يتمتعون بحريات سياسية في الداخل، وحرية صحافة، واحتجاجات مشروعة في الشارع، في حين أن النظام السياسي الروسي يمنع على نحو واسع الاحتجاجات المناهضة للحكومة؛ فهو نظام أمني مبني على الخوف، يتم خلاله سجن واضطهاد المعارضين، بجانب تجنيد موسكو علانية مرتزقة من سوريا من أجل دعم قواتها، وتستخدم مجموعة فاجنر، وهي شركة أمنية خاصة روسية غامضة. ومن ثم ستكون الخسائر مرعبة في صفوف المدنيين والعسكريين. ورغم ذلك يظل بوتين مصمماً على ضم أوكرانيا إما كدولة "دمية" باسم مستقل، أو كتابع لـروسيا العظمى؛ الأمر الذي قد يقود إلى "حرب مدن" في ظل وجود معارضة شديدة لموسكو.

هـ- هجرة متواصلة: حيث اضطر عشرات الآلاف من المواطنين الأوكرانيين إلى الهرب من مدنهم والنزوح إلى حدود عدة دول أوروبية، ويقدر عددهم بنحو 4 ملايين لاجئ أوكراني وأكثر من مليون ونصف نزحوا إلى الدول المجاورة؛ الأمر الذي وُصِف بأنه أسوأ عملية لجوء منذ الحرب العالمية الثانية.

ولكن أياً كانت الطريقة التي تنتهي بها هذه الحرب، فإن العالم تغير بعدها، ولن يعود إلى ما كان عليه من قبل. فعلاقة روسيا بالخارج ستكون مختلفة، وسيكون تعامل الأوروبيين مع القضايا الأمنية مختلفاً، خاصةً أن ملامح النظام الدولي الجديد كادت تكتمل.

مستقبل أوكرانيا بعد الغزو الروسي