د. يوسف داوود


        
<p>تحركت الدبلوماسية الفرنسية خلال الأسابيع القليلة الماضية للوساطة في أزمة أوكرانيا المتصاعدة، من خلال إحياء ما يعرف باسم "صيغة نورماندي"؛ وهي منصة حوار رباعية ومنتدى غير رسمي للقنوات الدبلوماسية، تأسس في عام 2014، وأسفر عن توقيع اتفاقية مينسك لتهدئة الصراع بين روسيا وأوكرانيا، عام 2015، وتضم المنصة الدبلوماسية طرفي الأزمة روسيا وأوكرانيا إلى جانب كل من الوسيطين الأوروبيين الكبيرين؛ فرنسا وألمانيا. حيث استؤنفت المحادثات الرباعية ضمن "صيغة نورماندي" منذ يناير 2022، في برلين وباريس، إلى جانب اتصالات هاتفية ولقاءات مباشرة جمعت الرئيسين؛ الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والروسي، فلاديمير بوتين، في فبراير 2022، بالتوازي مع إعلان الرئاسة الفرنسية أنّ قادة الدول الغربية وبينهم الرئيس الأمريكي؛ جو بايدن، والمستشار الألماني؛ أولاف شولتس "يؤكدون دعمهم لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها"، ومؤخراً أعلن الإليزيه، في 21 فبراير 2022، أن "بوتين" و"بايدن" قد "وافقا على مبدأ" أن يلتقيا في قمة اقترحها الرئيس "ماكرون" في حال لم تُقدِم روسيا على غزو أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">اعتبارات الوساطة الفرنسية</span></strong></p>



<p>لكن كثافة التحركات الفرنسية لحلحلة الأزمة الأوكرانية وخفض التصعيد الروسي الحاصل على الحدود الشرقية للقارة الأوروبية خلال الفترة الأخيرة، تثير الكثير من التساؤلات حول مدى اعتبارات الوساطة الفرنسية في تلك الأزمة التي باتت إحدى مؤرقات الأمن الأوروبي والأطلسي، بل والعالمي، منذ مطلع العام 2022، وهو ما يمكن الوقوف عليه عبر النقاط التالية<strong>:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- الترحيب المبدئي بالوساطة الفرنسية من طرفي الأزمة المباشرين:</strong> يبدو من ردود فعل طرفي الأزمة الرئيسيين، وهما الرئيس الروسي؛ فلاديمير بوتين، والأوكراني؛ فولوديمير زيلينيسكي، أن الوساطة الفرنسية في الأزمة الأوكرانية تلقى قدراً معتبراً من الترحيب. فقد كان الرئيس "ماكرون" هو الرئيس الوحيد الذي تمكن من الالتقاء بكل من؛ "بوتين" و"زيلينيسكي" أثناء حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، كما حادث "ماكرون" الرئيسين الروسي والأوكراني هاتفياً في نفس اليوم، 20 فبراير 2022، للتأكيد على ضرورة التمسك بالحلول الدبلوماسية للأزمة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- الارتكاز الفرنسي على وساطتها الدبلوماسية السابقة: </strong>لا تعتبر جهود الوساطة الفرنسية الحالية وليدة اللحظة، حيث سبق لفرنسا القيام بأدوار فعالة في الوساطة في هذه الأزمة منذ بدايتها عام 2014، وهو الأمر الذي تعول عليه في سعيها للحصول على قبول أطراف الأزمة المتفجرة من جديد. فقد سبق لفرنسا في 2014 قيادة الجهود الدبلوماسية لجلب الرئيسين الروسي والأوكراني على مائدة المفاوضات فيما يعرف بمفاوضات "نورماندي" أو N4، وذلك إلى جانب المستشار الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. يضاف إلى ما سبق استضافة فرنسا قمة رؤساء الدول والحكومات الأربعة، في ديسمبر 2019، وذلك بعد القمة السابقة، في أكتوبر 2016، والتي عقدت في برلين. هذا، وقد مكنت هذه القمة من تحديد عدد معين من التدابير لتحسين الوضع على الأرض وتسهيل تنفيذ اتفاقات مينسك، سواء تعلق ذلك بتدعيم وقف إطلاق النار، وتحقيق تقدم في عملية إزالة الألغام، وفتح نقاط عبور جديدة، وتحديد مناطق جديدة لفك الاشتباك، وأخيراً تبادل الأسرى المرتبطين بالنزاع. كما أكد الطرفان على التزامهما برؤية التقدم المحرز في جميع الجوانب القانونية المرتبطة بالجانب السياسي لاتفاقات مينسك.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- غياب الوسطاء المحتملين الآخرين في الأزمة الراهنة:</strong> في الأزمات الكبرى، يتوقع أطراف النزاع أن يلعب دور الوساطة قوة إقليمية أو دولية مؤثرة في محيطها الإقليمي والعالمي. إلا أن مسألة كون روسيا أحد أطراف النزاع تقلل من احتمالات وجود أي وسطاء مقبولين بالنسبة لها إن لم تكن فرص إيجاد هذا الوسيط منعدمة. فالولايات المتحدة وبريطانيا يتخذان مواقف حادة ضد روسيا على طول الخط ويتزعمون فرض العقوبات عليها، كما أن فرنسا وكافة دول الاتحاد الأوروبي تنخرط في تطبيق مثل هذه العقوبات كجزء من المنظومة الغربية ضد الطموحات التوسعية الروسية، أو كجزء من منظومة الناتو الأمنية في مواجهة روسيا وحلفائها. ورغم أن فرنسا جزء من هذه المنظومة المناوئة لروسيا، إلا أنها تعتبر الأقل إدلاءً بتصريحات عنيفة ضد الرئيس الروسي، وأكثر الدول الأوروبية حرصاً على عدم تفاقم الوضع في أوروبا خوفاً من تهديد مشروع التكامل الأوروبي برمته. لذلك، فهي تحرص على إبقاء حد أدنى من الحوار والانفتاح مع روسيا، بغير إيعاز من الولايات المتحدة كما يزعم البعض، لكن من منطلق الحرص على عدم تفكيك المشروع الأوروبي الذي تتزعمه.&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><span class="has-inline-color has-vivid-red-color"><strong>أدوات رئيسية</strong></span></p>



<p>وتعول الوساطة الفرنسية على عدد من الأدوات والوسائل التي تعزز من حضورها الدبلوماسي في أزمة أوكرانيا، والتي يمكن بيانها على النحو التالي:</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- الرئاسة الفرنسية الراهنة للاتحاد الأوروبي: </strong>تشير تقديرات إلى أن الرئيس الفرنسي؛ إيمانويل ماكرون، سيعمل على الاستفادة من رئاسة بلاده للاتحاد الأوروبي، منذ يناير 2022، كورقة رابحة أثناء لعب دور الوساطة في الأزمة الأوكرانية، وذلك بالتأكيد على حديثه باسم الاتحاد الأوروبي ككيان أوروبي جامع، ووفقاً للرؤي المشتركة والمنسقة لدول الاتحاد، وهو ما يكسبه مزيداً من الانتباه عند الحديث مع الرئيس الروسي؛ فلاديمير بوتين، الذي يأخذ رد فعل الاتحاد الأوروبي تجاه الأزمة بعين الاعتبار.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- النهج الدبلوماسي الفرنسي القائم على خبرة قانونية:</strong> تعتبر الآليات القانونية والتنفيذية ضمن أهم الأدوات التي تلجأ إليها الدبلوماسية الفرنسية عادة لتفعيل أدوراها في الخارج. ففي ظل تراجع النفوذ العالمي لفرنسا وانحسار قوتها العسكرية مقارنة بدول كبري أخرى، تلجأ عادة باريس للمساهمة في صياغة الآليات القانونية والتفاوضية للنزاعات، وهو شق تتميز به باريس في ظل تميزها في النهج القانوني والدبلوماسية الناعمة. تجدر الإشارة هنا إلى أن "ماكرون" كان صاحب فكرة تحويل "اتفاقيات مينسك" إلى ما يسمي بـ "حزمة إجراءات التفعيل"، والتي تهدف إلى ترجمة الهدنة بين روسيا وأوكرانيا إلى إجراءات عملية لضمان عدم تجدد الاشتباكات في إقليم القرم وشرق أوكرانيا. في ذات السياق، تلجأ فرنسا للتأكيد في ظل الأزمة الحالية على ضرورة العودة لحزمة الإجراءات التنفيذية وعدم العودة للوراء والبحث في التوجهات السياسية لأطراف الأزمة من الصفر.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- كسب ثقة أوكرانيا للتحرك ضمن حدود وساطة باريس:</strong> لا يمكن لجهود الوساطة الفرنسية ان تنجح دون كسب ثقة الطرف الآخر ألا وهو أوكرانيا. فلو كان من المؤكد أن أوكرانيا ستسعى بكل السبل لتنفيذ سياسة حلفائها الغربيين في الأزمة باعتبارهم ملاذها الوحيد، إلا أنه من غير المضمون أن تكون كافة تحركاتها وتصرفاتها متزنة بالشكل الذي يحول دون تصعيد وتفاقم الأزمة بشكل لا يمكن التحكم به. من هنا، تسعى فرنسا بقدر الإمكان لكسب ثقة النظام السياسي في أوكرانيا لضمان أن كافة تحركاته ستكون منسقة مسبقاً مع باريس، التي تري أن أوكرانيا جزءاً أصيلاً من القارة الأوروبية وإن لم تنضم للاتحاد. بالإضافة لما تقدم، تسعي باريس علنياً وضمنياً لإيصال رسالة إلى أوكرانيا مفادها أن الحلفاء الأوروبيين أكثر حرصاً على عدم تفاقم الأزمة أكثر من الولايات المتحدة، فالأخيرة كانت قد صرحت أنه لا يجب على حلف الناتو الانخراط في أي صدام مسلح حال حدوثه، لذلك تؤكد فرنسا باستمرار أن انخراط الناتو وإن كان غير مؤكد، فإن تدخل الاتحاد الأوروبي ودوله الفاعلة سيكون لا مفر منه.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- تأثير الوساطة الفرنسية على ملف الانتخابات الرئاسية:</strong> إن مدى استعداد فرنسا لتطوير استراتيجيات الوساطة والتدخل الإيجابي في الأزمة يخضع أيضاً لعامل مهم ألا وهو الداخل الفرنسي. ففرنسا على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة في شهر أبريل 2022، ويولي الرئيس "ماكرون" اهتماماً كبيراً في الوقت الراهن بالقضايا الخارجية التي قد تؤثر على الرأي العام الفرنسي، خاصة تلك المرتبطة بأمن أوروبا بشكل مباشر. هذا، وتشير استطلاعات الرأي في فرنسا، وآخرها استطلاع أجرته مؤسسة Enternaut بشأن أهم القضايا الخارجية المؤثرة في آراء الناخبين، بأن قضية أوكرانيا تحتل الصدارة بين الناخبين الفرنسيين، ومن ثم يرغب ماكرون في تحقيق انفراجة حقيقية في الأزمة – عن طريق مزيد من إجراءات تفعيل الوساطة – والتي قد تعزز من صورته الإيجابية قبل عقد الانتخابات، وإن كان هذا الأمر قد يمثل سيف ذو حدين حال تعقد الأزمة أو تصاعدها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">عوامل مؤثرة</span></strong></p>



<p>تخضع فرص نجاح أو فشل الوساطة الفرنسية في منع نشوب صراع مسلح بين روسيا وأوكرانيا لعدة عوامل، وهي ليست كلها مرتبطة بما قد تمتلكه فرنسا من إمكانات ووسائل تأثير، ويمكن الإشارة لهذه العوامل على النحو التالي:</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- مدى التنسيق بين الحلفاء الغربيين حول خطة التحرك:</strong> تخضع فرص نجاح أو فشل الوساطة الفرنسية إلى المدى الذي يمكن أن يصل إليه التنسيق بين الحلفاء الغربيين حول خطة التحرك، حيث إنه لا يزال هناك قدراً من التباعد بين موقف كلاً من بريطانيا والولايات المتحدة من جانب، والدول الأوروبية من جانب آخر. ويتضح ذلك من خلال انخراط ماكرون المباشر مع روسيا وأوكرانيا في الوقت الحالي، بينما يتولى أولاف شولتز – رئيس وزراء المانيا – مسؤولية التنسيق مع واشنطن، وهو ما يثير مجموعة من التساؤلات حول عدم عقد لقاء تنسيقي مشترك يجمع دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وواشنطن على مائدة تفاوضية واحدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- مدى تطور الموقف الروسي من الأزمة:</strong> مما لا شك فيه أن التحركات الروسية هي العنصر الأكثر تأثيراً في تفاقم أو حل هذه الأزمة في ظل معطيات القوي السياسية والعسكرية. ففي الوقت الى تحاول فيه فرنسا احتواء المشكلات الموجودة بالفعل، قامت روسيا، في 21 فبراير 2022، بالإعلان عن أن منطقتي لوهانسك ودونيستك الواقعتين شرق أوكرانيا ككيانين مستقلين أصحاب سيادة. هذه المواقف غير المتوقعة والتحركات الروسية ذات الطابع المتسارع قد لا تكون فقط سبباً في إفشال الوساطة الفرنسية، لكن قد تكون محفزاً لخسارة أى نهج دبلوماسي تتبعه باريس وتحويلها لنهج أكثر حدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- حدود انخراط أطراف أخرى كوسطاء جدد:</strong> كما سبقت الإشارة، فإنه ليس من السهل إيجاد قوة كبرى في هذه الأزمات تصلح كوسيط لحلها، ومع ذلك ظهرت محاولات من جانب كل من تركيا والصين للتدخل في الأزمة كوسطاء، وذلك في ظل علاقتيهما المتشعبة بروسيا وخاصة بعد حصول تركيا على منظومات الدفاع الجوي S-400. وفي التقدير، فإن محاولات تركيا والصين للوساطة لن تلقى نجاحاً يذكر في ظل انخراط الولايات المتحدة في الأزمة عن قرب، ومع ذلك قد تسبب هذه المحاولات نوعاً من العرقلة للجهود الفرنسية في ظل سعيهما لسحب بساط الريادة من باريس على المستوي السياسي والقانوني.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وختاماً؛ فإن تشابك الأزمة الروسية، وتعقد سياقات وتحركات الموقف الأمريكي والأوروبي إزاء الأزمة، ربما يزيد من صعوبة الوساطة الفرنسية التي يفترض بها أن تكون إطاراً دبلوماسية معبراً عن كتلة غربية، تبدو غير متجانسة إزاء الأزمة الأوكرانية والموقف من روسيا بشكل عام، سواء على الصعيد الأوروبي، الذي تترأس فرنسا اتحاده السياسي الجامع أو المفترض به أن يكون جامعاً ومعبراً عن الرؤية الأوروبية الاتحادية، أو على الصعيد الأطلسي، باعتبار أن الأزمة تمس بشكل مباشر أمن حلف الناتو، والدور القيادي التاريخي للولايات المتحدة في الحلف الذي يمثل المظلة الأمنية والدفاعية الرئيسية للقارة الأوروبية منذ منتصف القرن الماضي.&nbsp;&nbsp; &nbsp;&nbsp;</p>

      

هل تنجح الوساطة الفرنسية في نزع فتيل الحرب بين روسيا وأوكرانيا؟