نظَّم مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية حلقة نقاشية بعنوان "عقيدة ماكرون: كيف يمكن فهم استراتيجية فرنسا تجاه الخليج العربي؟"، يوم 26 سبتمبر 2022. استضاف خلالها د. جان لو سمعان الباحث الأول المقيم في معهد الشرق الأوسط التابع للجامعة الوطنية بسنغافورة، والباحث المشارك في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية. استهدفت الحلقة تقييم سياسة فرنسا، باعتبارها قوة متوسطة، تجاه منطقة الخليج خلال رئاسة "إيمانويل ماكرون".

تطور تدريجي

قدمت الحلقة في البداية خلفية تاريخية عن تطور السياسة الفرنسية في منطقة الخليج قبل وبعد الحرب العالمية الثانية. ويتضح ذلك عبر ما يلي:

1– محدودية الوجود بالخليج قبل الحرب العالمية الثانية: أكد المشاركون أهمية التركيز على السياسة الفرنسية تجاه منطقة الخليج قبيل الحرب العالمية الثانية، وأشاروا إلى أن الوجود الفرنسي في المنطقة كان محدوداً للغاية، خاصةً أن فرنسا لم تكن قوة استعمارية رئيسية في الخليج مثل المملكة المتحدة أو البرتغال. ولفت المشاركون إلى أن فرنسا كانت قوة موجود في أفريقيا والمشرق العربي، في حين أن منطقة الخليج كانت واقعة بصورة أساسية تحت تأثير المملكة المتحدة.

وأوضح المشاركون أن الأرشيف الوطني للحكومة الفرنسية يوضح أن فرنسا فتحت قنصلية في مسقط بعمان عام 1795، كما فتحت قنصلية في مدينة جدة في عام 1841. لكن على الرغم من هذه التبادلات الدبلوماسية بين فرنسا والخليج العربي آنذاك، فإن باريس – بحسب المشاركين – لم تلعب دوراً حاسماً في سياق المنافسة الاستعمارية بالمنطقة، وأكدوا أن منطقة الخليج كانت منطقةً مهمةً للإمبراطورية البريطانية بسبب الموقع الاستراتيجي للخليج بين الغرب وآسيا.

2– تحسن العلاقات الفرنسية–العربية في عهد "ديجول": وفقاً للمشاركين في الحلقة، تغيرت وضعية الوجود الفرنسي في منطقة الخليج بعد الحرب العالمية الثانية، خاصةً بعد إسقاط الجمهورية الرابعة (1946– 1958): وذلك بعد تولي "شارل ديجول" الحكم وتأسيسه ما يُعرف حتى الآن بنموذج "شارل ديجول" في مجال السياسة الخارجية الفرنسية؛ حيث يُنظر إلى "ديجول" على أنه الشخصية السياسية الأكثر تأثيراً في تاريخ فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وطبقاً للمشاركين، كانت لدى "ديجول" قناعة بعد عودته إلى السلطة في 1959 بأنه من الضروري أن تتبنى بلاده سياسة خاصة ومختلفة عن الولايات المتحدة وحلف الناتو.

وتبنى "ديجول"، بحسب المشاركين، سياسة "عدم الانحياز" لتبني نهج خاص ومستقل عن الغرب بدون الانضمام إلى كتلة الاتحاد السوفييتي آنذاك؛ ولذلك قرر سحب القوات الفرنسية من القيادة العسكرية للناتو في عام 1966، كما وقع اتفاقاً في العام نفسه مع الاتحاد السوفييتي حول التعاون العلمي. وأشار المشاركون إلى حدوث تغيير مماثل تجاه سياسة فرنسا في الشرق الأوسط والمنطقة العربية خلال هذه المرحلة.

3– تأسيس "بومبيدو" علاقات وثيقة مع الدول العربية: أوضح المشاركون أن مرحلة "السياسة العربية" لفرنسا بدأت في الستينيات على يد "ديجول" واستمرت بعد وفاته مع حكومة "جورج بومبيدو"، ووزير الخارجية "ميشيل جوبير" الذي لعب دوراً مهماً لتعزيز العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والبلدان العربية في بداية السبعينيات. ونوه المشاركون أنه خلال هذه الفترة تم تأسيس علاقات استراتيجية بين فرنسا وبلدان عربية مثل ليبيا والعراق؛ حيث دعم "بومبيدو" في عام 1969 الثورة الليبية تحت قيادة "معمر القذافي"، كما تم تقديم أسلحة للنظام الليبي في العام التالي.

وأكد المشاركون أنه في عهد "بومبيدو" أصبحت فرنسا هي الشريك الغربي الأول لبغداد؛ وذلك بعد تقويتها التعاون الثنائي في المجالات العسكرية والتجارية والنووية. وشدد المشاركون على أنه في ضوء التأثيرات التي أحدثها "ديجول" في السياسة الخارجية الفرنسية، فإن من الضروري أن يؤخذ في الحسبان عامل آخر مؤثر على سياسة فرنسا تجاه الخليج، وهو انسحاب المملكة المتحدة من شرق السويس عام 1968، وانسحابها بعد ذلك من الخليج العربي في عام 1971، وتأسيس الإمارات العربية المتحدة في العام نفسه.

4– تعزيز باريس حضورها بالخليج بعد رحيل بريطانيا: أوضح الحضور أن انسحاب القوات المسلحة البريطانية من آسيا والخليج كان يعني وضعاً استراتيجياً جديداً في المنطقة، مشيرين إلى أن النتيجة الأولى كانت زيادة الوجود الأمريكي عبر إنشاء واشنطن قاعدة بحرية في مملكة البحرين عام 1971 وتأسيس القيادة المركزية في عام 1983، وأضافوا أن النتيجة الثانية كانت انخراط فرنسا في المنافسة الدولية في منطقة الخليج؛ حيث يبدو واضحاً أن المسؤولين الفرنسيين نظروا إلى الانسحاب البريطاني كفرصة جيوسياسية لتعزيز حضورها في المنطقة.

5– تعميق فرنسا علاقاتها الخليجية بعد حادثة مكة: وفقاً للمشاركين، يدلل على هذا الأمر، بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، زيارة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ "زايد بن سلطان آل نهيان" إلى فرنسا في عام 1975، وتوقيع اتفاقات بين البلدين في مجالات الطاقة والتجارة والثقافة والدفاع، وأوضحوا أن التقارب الأبرز خلال تلك الفترة كان بين فرنسا والمملكة العربية السعودية خاصةً في إطار حادثة مدينة مكة المكرمة في شهر نوفمبر عام 1979، وأكد الحضور أنه لا يمكن فهم طبيعة العلاقات بين الدولتين بدون دراسة هذه الأزمة.

وبحسب المشاركين، رغم أن القوات المسلحة السعودية كانت تقيم علاقات قوية مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتين ساعدتا بتعليم وبتدريب الجنود السعوديين منذ الخمسينيات، فإن المحادثات بين الولايات المتحدة والسعودية فشلت بعد طلب الرياض من واشنطن المساعدة لصد الهجوم الإرهابي على المسجد الحرام في عام 1979، لتطلب السعودية الدعم من فرنسا التي استجابت على الفور بإرسال مجموعة من القوات الخاصة للدرك الوطني ومستشارين عسكريين فرنسيين لدعم الرياض رغم أن علاقة البلدين لم يكن لها بعد استراتيجي عميق قبل عام 1979. وقد ساهمت هذه الواقعة في تعزيز العلاقات الفرنسية السعودية في الثمانينيات.

أبعاد حاكمة

أكدت الحلقة النقاشية أن تأثير نموذج "شارل ديجول" في السياسة الفرنسية تجاه منطقة الخليج لا يزال ممتداً حتى الآن، مشددةً في هذا الإطار على أن أهداف ومحددات السياسة الفرنسية في الخليج تتمثل فيما يلي:

1– تعزيز الشراكة الممتدة مع أبو ظبي والرياض والدوحة: أوضح المشاركون أن من الضروري استخدام تعبير "المثلث الجيوسياسي" عند الحديث عن علاقات فرنسا الخليجية، ولفتوا إلى أن هذا التعبير موجود في اللغة الدبلوماسية الفرنسية، ويشير إلى الشركاء الأساسيين لباريس، وهم السعودية والإمارات وقطر. ونوه الحضور أن فرنسا لا تمتلك علاقات قوية مع دول الخليج الأخرى، وهي البحرين وعمان والكويت، باعتبارها دولاً تميل أكثر إلى الجانب البريطاني، ويدلل على ذلك – على سبيل المثال – وجود مستشارين عسكريين بريطانيين في عمان وتأسيس قاعدة بحرية بريطانية جديدة في البحرين في 2018.

2– تباين رؤية رؤساء فرنسا لدول "المثلث الجيوسياسي": نوه الحضور أن هذا "المثلث الجيوسياسي" لم يتغير منذ تأسيس السياسة الإقليمية الفرنسية في السبعينيات، وإن كان هناك اختلافات بين الرؤساء الفرنسيين حول الأهمية النسبية لكل دولة. ودلل الحضور على ذلك بتركيز الرئيس الفرنسي الأسبق "نيكولا ساركوزي" على تعزيز علاقات بلاده مع قطر، وتوظيف علاقاته الشخصية مع أميرها السابق "حمد بن خليفة آل ثاني"، وأكدوا أن هذه السياسة أدت إلى زيادة الاستثمارات القطرية في فرنسا. ويعد المثال الأبرز على ذلك الاستثمار القطري في نادي باريس سان جيرمان في عام 2011.

ولفت الحضور إلى أن نتائج التقارب الفرنسي–القطري منذ عهد "ساركوزي" لا تزال ملحوظة حتى الآن من خلال الحضور الاقتصادي القطري في باريس، وأشاروا إلى أن الرئيس السابق "فرانسوا أولاند" ركز بصورة أساسية على تحسين العلاقات مع الرياض التي كانت تضعف منذ وفاة ولي عهد المملكة سلطان بن عبد العزيز في عام 2011. وشدد الحضور على أن رئاسة "ماكرون" تكشف عن أولويات مختلفة؛ حيث يبدو واضحاً أن "مركز الجاذبية" للسياسة الفرنسية في الخليج الآن هي العلاقة بين فرنسا والإمارات.

3– وجود أبعاد عسكرية واقتصادية وثقافية حاكمة للعلاقات: أكد المشاركون أن السياسة الخليجية لفرنسا تقوم على ثلاثة أبعاد: عسكرية واقتصادية وثقافية. فبالنسبة إلى البعد العسكري، توجد القوات الفرنسية في المنطقة، وتحديداً في الإمارات التي تحتضن 650 جندياً فرنسياً منذ افتتاح قاعدة عسكرية فرنسية في ميناء زايد في عام 2009، كما يوجد نحو 70 جندياً فرنسياً في قطر، و50 في السعودية. وأشار الحضور إلى أن الوجود العسكري الفرنسي صغير بالمقارنة مع الولايات المتحدة التي تمتلك نحو 40 ألف جندي في الخليج اليوم.

ووفقاً للمشاركين، تحتل فرنسا مكانة رائدة في مجال تصدير الأسلحة إلى المنطقة؛ فعلى سبيل المثال باعت الدولة الفرنسية "فرقاطات" للسعودية في الثمانينيات، وطائرات مقاتلة "رافال" لقطر في 2017 وللإمارات في 2021. وبحسب الحضور، هناك بعد اقتصادي للسياسة الفرنسية تجاه المنطقة، وقد برزت أهمية هذا البعد منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022؛ حيث يطمح "ماكرون" إلى استبدال إمدادات الطاقة التي تحصل عليها بلاده من روسيا عبر دول الخليج.

ولفت الحضور إلى بعد ثقافي للسياسة الفرنسية تجاه الخليج، ولا يظهر هذا البعد في السياسة الأمريكية أو البريطانية. وعلى سبيل المثال، يوجد متحف اللوفر أبو ظبي وجماعة السوربون في أبو ظبي، ويبرز ذلك في السعودية مع تأسيس الوِكالة الفرنسية لتطوير مدينة العلا، وفي قطر مع بناء المتحف الوطني الذي بناه المهندس المعماري الفرنسي جان نوفيل.

4– تبني مواقف متسقة مع دول الخليج تجاه الشرق الأوسط: أوضح الحضور أن السبب الأهم للتقارب بين فرنسا والخليج كان تشابه الرؤى السياسية المشتركة لفرنسا وحلفائها حول القضايا الأساسية في الشرق الأوسط، وخصوصاً بالنسبة إلى مسألة سياسة إيران في المنطقة؛ ففرنسا تلعب دوراً معتبراً في المحادثات الدولية بشأن البرنامج النووي الإيراني، كما أن أغلبية النصوص الرسمية للسياسة الخارجية الفرنسية تشير إلى أولوية أمن الخليج بالنسبة إلى باريس.

وبحسب المشاركين، يوجد تشابه بين سياسات فرنسا ودول الخليج بشأن عدد من الملفات الإقليمية، وخصوصاً بين فرنسا والإمارات، وأشاروا إلى أن القاسم المشترك في كل هذه الملفات كان ملف مكافحة الإرهاب، كما دللوا على ذلك بدعم الجانبين لمصر منذ عام 2013، وفي ليبيا وسوريا أيضاً، وفي منطقة الساحل في أفريقيا؛ حيث شنت الدولة الفرنسية العملية العسكرية "برخان" في 2014، وبعد ذلك أعلنت السعودية والإمارات تقديم مساعدة مالية لدول الساحل لدعم المبادرة الفرنسية لاستقرار هذه المنطقة.

تحديات مربكة

شددت الحلقة النقاشية على أن سياسة فرنسا العالمية بوجه عام، وسياستها تجاه دول الخليج بوجه خاص، تواجه مجموعة من التحديات يمكن استعراضها عبر ما يلي:

1– انشغال فرنسا بمتابعة تطورات الحرب الأوكرانية: أكد المشاركون أن من الواضح أن الأولوية للسياسة الفرنسية في الوقت الحالي ليست تعميق العلاقات مع دول الخليج، بل تطورات الحرب في أوكرانيا وكيفية تسوية هذه الحرب؛ فمنذ بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، أصبحت القضية الأوكرانية الموضوع الأساسي للسياسة الفرنسية، بل يرى البعض أنه بات موضوعها الوحيد. ووفقاً للمشاركين، ففي رأي المسؤولين الفرنسيين، أدى هذا الصراع إلى عدد من التغييرات الجيوسياسية، وعلى رأسها فرض عقوبات اقتصادية على روسيا من الاتحاد الأوروبي، وتسليح القوات الأوكرانية، وسعي حلف الناتو إلى تعزيز أمن أوروبا.

ولفت الحضور إلى أن الحرب الأوكرانية تؤدي إلى زيادة الضغط على الميزانية العسكرية الفرنسية، على غرار ما هو حاصل في غالبية البلدان الأوروبية، وأضافوا أنه في ضوء تركيز باريس على ما يجري في الجبهة الشرقية في أوروبا، فإن من الطبيعي أن تكون قضايا الشرق الأوسط غير رئيسية في باريس. وبحسب المشاركين، تؤثر الحرب بشكل ملحوظ على سياسة فرنسا تجاه الخليج من خلال أزمة الطاقة التي برزت في أوروبا نتيجة الصراع مع روسيا. ويأتي ذلك في الوقت الذي تنشغل فيه فرنسا بما يجري في مالي وتطوراتها التي دفعت جيشها إلى الانسحاب من هناك.

2– تأثير التوازنات الداخلية على السياسة الخارجية: أوضح الحضور أن الرئيس الفرنسي يواجه صعوبات أيضاً على المستوى الداخلي منذ الانتخابات التشريعية في شهر يونيو الماضي؛ فرغم أنه فاز في الانتخابات الرئاسية في شهر مايو الماضي، فإن حزبه "الجمهورية إلى الأمام" خسر الانتخابات التشريعية ولم يؤمن الأغلبية البرلمانية المطلوبة لتمرير أجندته، وتتمثل المعارضة الرئيسية له في البرلمان في حزب "مارين لوبان" الذي يمتلك 88 مقعداً في المجلس

كما يوجد حضور قوي لليسار المتطرف الممثل في حزب "فرنسا الأبية" الذي يمتلك 75 مقعداً. ووفقاً للمشاركين، رغم عدم وجود نتيجة واضحة لتغيرات المشهد الداخلي الفرنسي على سياسة "ماكرون" تجاه الخليج، لكن غياب أغلبية برلمانية لحزبه يعني أن عليه التفاوض باستمرار مع المعارضة وتقديم تنازلات لها لتمرير سياسته بشأن الملفات الخارجية، وعلى رأسها سياسة باريس تجاه منطقة الخليج.

3– وجود قيود على دور فرنسا لكونها قوة متوسطة: بحسب المشاركين، ثمة إدراك لدى صانعي القرار في فرنسا بأن هناك حدوداً لقوة باريس وقدرتها على التأثير العالمي؛ فرغم استمرار نهج فرنسا الإيجابي تجاه منطقة الخليج منذ عهد "شارل ديجول" حتى الآن، فإن طموح فرنسا كقوة متوسطة – حيث لا تمتلك باريس القدرات العسكرية والاقتصادية التي تمتلكها كل من الولايات المتحدة والصين، فضلاً عن ملاحظة تراجع في القدرات الفرنسية مقارنةً بعهد "ديجول" – يفرض عليها قيوداً في سياستها الخارجية بوجه عام وتجاه منطقة الخليج بوجه خاص.

أزمة كاشفة

وختاماً، أكدت الحلقة النقاشية أن ما جرى في عام 2021 بعد تدشين تحالف "أوكوس" بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ من إلغاء أستراليا عقد شراء غواصات فرنسية بعد حصولها على غواصات نووية، يدلل على محدودية القدرات الفرنسية في الوقت الحالي. وشددت الحلقة النقاشية على أن هذه الأزمة الدبلوماسية كانت كارثة كبيرة بالنسبة إلى فرنسا؛ حيث عكست على نحو واقعي طموحات باريس الدولية.

كيف يمكن فهم استراتيجية فرنسا تجاه الخليج العربي؟ (حلقة نقاشية)