د. أحمد عبدالعليم حسن


        
<p><strong>ترتبط التطورات المتعلقة بالأزمة الأوكرانية ارتباطاً وثيقاً بمنطقة الشرق الأوسط، خاصةً على المستوى الجيواستراتيجي، في ظل ترقُّب دول المنطقة لمدى جدوى السياسات الأمريكية في احتواء خطر وجودي متعلق بحليف مهم مثل كييف، وما يمكن أن يرتبط بذلك من استنساخ لتجارب مماثلة في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ يمثل النموذج الأوكراني اختباراً حقيقيّاً لمدى كفاءة الولايات المتحدة في قيادة النظام العالمي الحالي، وفي إمكانية الحفاظ على تحالفاتها في منطقة الشرق الأوسط، في خضم حالة من التشكُّك من جانب بعض الدول في الرهان الكامل على الحليف الأمريكي في المستقبل القريب.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>وكان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، قد أكد في 22 فبراير 2022 أن اعتراف روسيا باستقلال ما تسمى الجمهوريات التي يسيطر عليها وكلاؤها في شرق أوكرانيا، عمل متوقع ومخزٍ؛ وذلك عقب إعلان واشنطن فرض مجموعة عقوبات ضد موسكو، وسط توقعات باحتمال وقوع غزو روسي للأراضي الأوكرانية في وقت قريب. وبطبيعة الحال لا تعد منطقة الشرق الأوسط بمعزلٍ عن تلك التطورات المتسارعة المتعلقة بالأزمة الأوكرانية، في ظل التحشيد العسكري الروسي، والتحفز الغربي والأمريكي، والتلويح بعقوبات بالغة ضد موسكو؛ إذ إن ثمة ترقُّباً شرق-أوسطيّاً حذراً لتلك التطورات؛ لمحاولة الإجابة عن التساؤل المرتبط بارتدادات الأزمة على مصالح دول المنطقة في المديين المنظور والمتوسط.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">&nbsp;ترقُّب شرق-أوسطي</span></strong></p>



<p><strong>تتفاعل دول منطقة الشرق الأوسط مع تطورات الأزمة الأوكرانية باهتمامٍ بالغ، وهو ما يمكن تناول أبرز ملامحه ودوافعه على النحو التالي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- إعادة النظر في جدوى التحالفات:</strong> يحظى التعامل الأمريكي مع الاعتداء العسكري من جانب إحدى القوى البارزة عالميّاً على "حليف نموذجي" على غرار أوكرانيا، باهتمام بين دول منطقة الشرق الأوسط، لا سيما الدول التي تمتعت بعلاقات وثيقة مع واشنطن على مدار العقود الماضية. إذ إن الخذلان الأمريكي للحليف الأوكراني قد يدفع بعض دول المنطقة، لا سيما الفاعلة، إلى إعادة النظر في جدوى التحالف مع واشنطن، ومحاولة البحث عن صياغة تحالفات أكثر مرونةً مع خصوم الولايات المتحدة، وعلى رأسها روسيا والصين، خاصةً في ظل ما قد يترتب على الغزو الروسي المحتمل للأراضي الأوكرانية من إعادة تشكيل للنظام الدولي الحالي.</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- الدفع نحو تكريس الاستقلال الدفاعي:</strong> من شأن نجاح روسيا في القيام بغزو محدود أو شامل للأراضي الأوكرانية، أن ينعكس سلباً على النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ من المرجح أن يثير أزمة ثقة مع حلفاء واشنطن في المنطقة، خاصةً في ظل تفضيل الولايات المتحدة "الدفاع المتأخر" عبر التمركز في بعض دول الجوار الأوكراني بدلاً من "الدفاع المتقدم" عن الحليف في مواجهة "الخصم المحتشد". وهو ما تجلَّى في إعلان الولايات المتحدة في 12 فبراير 2022، إصدار أوامر بسحب شبه كامل للجنود الأمريكيين المنتشرين في أوكرانيا وإعادة نشرهم في مواقع أخرى في القارة الأوروبية، وهو ما قد يثير الشكوك حول جدوى الانتشار العسكري الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط في المديين المنظور والمتوسط. </p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- تحوُّل أوكرانيا إلى "أفغانستان جديدة":</strong> في ظل تصاعد ما يمكن وصفه بالمقاربات الانسحابية في السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة، فقد أثار الانسحاب غير المدروس من أفغانستان قلقاً بالغاً لدى دوائر صنع القرار في منطقة الشرق الأوسط، وعكس بطبيعة الحال التضارب بين المؤسسات الأمريكية في التعامل مع منطقة استراتيجية بالنسبة إلى واشنطن، ودفع البعض إلى التشكيك في جدوى التقارب مع الولايات المتحدة. فيما اتجهت بعض التقديرات الغربية إلى التحذير من مغبَّة تحوُّل أوكرانيا إلى "أفغانستان جديدة"، في دلالة على فشل السياسات الأمريكية في التعامل مع قضايا حيوية، وهي تطورات في مجملها قد تزيد الفجوة الآخذة في الاتساع بين دول المنطقة من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، وبما يمكن أن توظفه روسيا والصين في مراحل لاحقة بطبيعة الحال.</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- تصدير الهزيمة باعتبارها أمراً واقعاً:</strong> أحد أبعاد الترقُّب الحذر في المنطقة لتطورات الأزمة الأوكرانية، يتمثل في التعامل الرسمي وغير الرسمي في الولايات المتحدة مع تلك الأزمة، باعتبار أن الغزو الروسي تم بالفعل، وأن الهزيمة الأوكرانية محققة، وهو ما ينعكس سلباً بطبيعة الحال على الشعب الأوكراني، وبما يؤثر سلباً في معنويات العسكريين الأوكرانيين تأثيراً كبيراً، وهو أحد أوجه القصور في التعامل الأمريكي مع الأزمة. ولعل تواتر الأنباء حول تقديم واشنطن دعماً كبيراً للمقاومة الأوكرانية فيما بعد الغزو الروسي مثال واضح على ذلك.</p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تفخيخ محتمل</span></strong></p>



<p><strong>من المرجح أن تنعكس تطورات الأزمة الأوكرانية، خاصةً إذا قامت روسيا بالفعل بغزو محدود أو شامل للأراضي الأوكرانية، بتداعيات جيواستراتيجية سلبية في منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك على النحو التالي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- توسيع هامش المناورة الإيرانية في الملف النووي:</strong> تأتي تطورات الأزمة الأوكرانية في ظل توقيت حاسم للجولة الثامنة من المباحثات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني؛ إذ قد تمنح الأزمة فرصة للإيرانيين من أجل مزيد من المناورة والمراوغة مع الجانب الأمريكي المنهك في متابعة تطورات التصعيد العسكري الروسي ضد أحد الحلفاء، وهو أمر لا ينحصر على الولايات المتحدة، بل يمتد لكافة الفاعلين الأوروبيين. وهو ما تجلَّى بوضوح في مؤتمر ميونخ للأمن، الذي انعقد على مدار الفترة من 18 حتى 20 فبراير 2022؛ إذ كان الشاغل الرئيسي لصُنَّاع القرار الغربيين هو الأزمة الأوكرانية، وسط تراجع الاهتمام الغربي بمناقشة الملف النووي الإيراني على سبيل المثال، مقارنةً بفعاليات المؤتمر في السنوات السابقة؛ إذ قفزت الأزمة الأوكرانية وسبل التعامل معها وتداعيات السيناريوهات المختلفة لها إلى صدارة دوائر الاهتمام حول العالم. ومن جانب آخر، قد تضغط روسيا على واشنطن في هذا الملف من أجل إرباك الأمريكيين ومنح فرصة أفضل للإيرانيين في المفاوضات.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- إشعال" نقاط مضطربة" في بعض مناطق الصراعات:</strong> قد تتجه موسكو إلى محاولة التصعيد غير المباشر ضد المصالح الأمريكية في بعض مناطق الصراعات، لا سيما سوريا، عبر محاولة التنسيق مع الحلفاء على الأرض من أجل استهداف الوجود الأمريكي في شرق سوريا على سبيل المثال. وكذلك فإن التوترات المتصاعدة بين أوروبا وروسيا من شأنها أن تنعكس على التسويات السياسية المحتملة في مناطق الصراعات، على غرار ليبيا وسوريا. ومن جانب آخر، تمثل روسيا وأوكرانيا 23% من صادرات القمح العالمية، وتعد ليبيا من أكبر مشتري القمح الأوكراني في المنطقة، فيما تعتمد سوريا واليمن على مشتريات برنامج الغذاء العالمي للقمح الأوكراني كمساعدات، وهو ما يعكس إمكانية تفاقم أزمة الأمن الغذائي في دول الصراعات بالمنطقة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- تصاعد تهديدات الوكلاء الميليشياويين بالمنطقة: </strong>قد تمثل الأزمة الأوكرانية فرصة بالنسبة إلى إيران من أجل التنسيق مع وكلائها في المنطقة للتصعيد ضد حلفاء واشنطن؛ من أجل إيصال رسالة عن عدم جدوى التقارب مع الولايات المتحدة، وهو ما قد يتجلَّى في عودة الاستهداف البحري ضد المصالح الإسرائيلية أو من خلال عودة الهجمات الإرهابية باستخدام المُسيَّرات والصواريخ ضد بعض دول الخليج العربي، في وقت طالب فيه وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان في 20 فبراير 2022 بهيكل جديد للأمن في منطقة الخليج العربي مع استبعاد أي طرف خارجي أو أجنبي، في إشارة إلى الولايات المتحدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- إثبات فشل السياسة الأمريكية في المنطقة:</strong> قد تمثل الأزمة الأوكرانية إثباتاً على فشل السياسة الأمريكية في المنطقة، القائمة على إجبار دول المنطقة على تحييد علاقاتها مع الخصوم على غرار الصين وروسيا، وبما يعكس إمكانية اتجاه تلك الدول إلى تعزيز علاقاتها ببكين وموسكو. ولعل التقارير المتداولة في منتصف فبراير 2022 عن رفض إسرائيل بيع نظام "القبة الحديدية" إلى أوكرانيا، من أجل عدم إغضاب روسيا، مثال واضح على تصاعد النفوذ الروسي في المنطقة حتى لدى الحليف الأهم لواشنطن. كذلك فإن تركيا، التي تملك ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة، قد وجهت انتقادات للمساعي الأمريكية والغربية لفرض عقوبات مكثفة على موسكو إذا قامت بغزو أوكرانيا؛ إذ أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية في 21 فبراير 2022 أن العقوبات الغربية ضد روسيا فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية "غير مجدية ولا تؤدي إلا إلى إرجاء المشاكل"، وهي تطورات تعكس في مجملها أن ثمة نظاماً عالميّاً جديداً متعدد الأقطاب بدأت ملامحه تتشكل في منطقة الشرق الأوسط.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تفضيل التحوُّط</span></strong></p>



<p><strong>وفي المجمل، فإن الأزمة الأوكرانية تدفع باتجاه "رابح وحيد"، وقد يكون الرابح هو الطرف الروسي، سواء عبر الحرب أو عبر المفاوضات، من خلال دفع الأطراف الغربية للاستجابة التامَّة للمخاوف الأمنية الروسية، لا سيما ما يتعلق بعدم قبول بعض دول شرق أوروبا في حلف الناتو، وهو ما سينعكس في كل الأحوال على النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وبما قد يدفع العديد من الفاعلين في المنطقة إلى إعادة صياغة علاقاتهم بواشنطن في المرحلة المقبلة، وتبني "سياسة التحوُّط" في التعامل مع مقدمات عالم متعدد الأقطاب يتطلب سياسة أكثر مرونة وأكثر برجماتية في التفاعل مع القوى الكبرى والفاعلة فيه، ولو ظلَّت الولايات المتحدة مركز الثقل في هذا النظام الدولي الجديد خلال العقد المقبل.</strong></p>

      

ما التداعيات الجيواستراتيجية للأزمة الأوكرانية على الشرق الأوسط؟