د. مصطفى شفيق علام


        
<p><strong>بعد أكثر من ربع قرن على استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان، ونحو عقدين من الإطاحة بها عن الحكم على يد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية؛ تعود الحركة المثيرة للجدل إلى واجهة المشهد الأفغاني من جديد على نحو دراماتيكي أثار الكثير من التساؤلات حول ماهية النسخة الجديدة من طالبان، لا سيما في ظل تمددها السريع لملء فراغ الانسحاب العسكري الأمريكي من البلاد، وانهيار الحكومة الأفغانية، وهروب الرئيس أشرف غني إلى خارج البلاد، وتبخر القوات الأفغانية التي عمدت واشنطن إلى بنائها وتدريبها ودعمها؛ عسكرياً ولوجستياً، على مدى 20 عاماً أمام زحف طالبان التي استولت على الحواضر الأفغانية بصورة سريعة وصولاً إلى العاصمة كابول قبل عدة أيام. ويمكن تناول أبرز ملامح تغيُّر حركة طالبان على مدار العقدين الأخيرين، وذلك على النحو التالي:</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- تجذُّر الحاضنة الاجتماعية القبلية:</strong> على عكس التنظيمات الراديكالية النخبوية في دول المشرق الإسلامي، فإنه ينظر إلى حركة طالبان باعتبارها تنظيماً جهادياً يغلب عليه الطابع القبلي، ولو كان ذلك بصبغة دينية سلفية ظاهرة؛ فالحركة تنحدر من عرقية "البشتون" كبرى التكوينات القبلية في أفغانستان (نحو 42–45% من إجمالي السكان)، الذين يتموضعون في مناطق واسعة من شرق وجنوب البلاد، تصل إلى نحو 50% من مساحة أفغانستان؛ ما جعلها تتمتع بحاضنة اجتماعية راسخة مكنتها من احتواء الصدمات الأمنية والعسكرية التي تعرضت لها طوال العقدين الماضيين.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد تجذَّرت الحاضنة الاجتماعية لحركة طالبان خلال الفترة الماضية، بالنظر إلى سياسات الولايات المتحدة الخاطئة خلال حقبة ما بعد الغزو، التي عمدت إلى تهميش "البشتون" على نحو كبير، والاعتماد بصورة متزايدة على العرقيات الأخرى الأقل حضوراً في البلاد، كالأوزبك والطاجيك؛ ما جعل "البشتون" أكثر دعماً لطالبان الذين رأوا فيهم فرس الرهان لإعادة الاعتبار القبلي إليهم، بعد توارث الحكومات الأفغانية المتعاقبة استراتيجية تهميش "البشتون" الأمريكية ولو كان الرئيس الأفغاني الفار أشرف غني نفسه من "البشتون".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- </strong><strong>حسم الخلافات العقائدية والمذهبية</strong><strong>:</strong> تعود الجذور الفكرية لحركة طالبان إلى المدرسة "الديوبندية" السنية الحنفية (نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان أبرز علماء المذاهب الفقهية الإسلامية الأربعة الكبرى). وعلى الرغم من جنوح الحركة في نسختها الأولى إلى نوع من التشدد في الفتاوى والخيارات الفقهية، متأثرةً في ذلك بأفكار وعقائد المقاتلين العرب الذين بقوا في أفغانستان بعد حقبة جهاد الغزو السوفييتي، وبما يخالف المذهب الحنفي ذاته؛ فإن النسخة الجديدة من طالبان تبدو أكثر انفتاحاً على مرونة المذهب الحنفي، وصولاً إلى وصفه بالتساهل لدى بعض المتشددين من أصحاب الفكر السلفي التقليدي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ويمكن النظر إلى المكون المذهبي الحنفي لدى حركة طالبان؛ فكراً وممارسة، في مسألة شائكة كزراعة الأفيون وتجارة المخدرات؛ فحسب التخريجات المذهبية للأحناف، يجوز بيع الخمور والمسكرات لمن يوصفون بـ"الكفار"، وفقاً لما ذهب إليه أبو حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن الشيباني، من جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأن العقود الفاسدة في ديار الإسلام تكون جائزة في ديار الكفر أو عند التعامل مع "المحاربين" من غير المسلمين.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>والقاعدة الفقهية التي تعمل بها طالبان في تلك المسائل الشائكة، تقوم على فتوى الأحناف بأنه "إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فبايعهم في الخمر والخنزير والميتة، وعقد معهم من المعاملات ما لا يجوز مثله في دار الإسلام؛ فلا بأس بذلك. وكذلك إذا أخذ منهم مالاً بطريق المراهنة دون أن يعطيهم، فذلك كله طيب له؛ لأنه أخذ مال الكافر بطيب نفسه. ومعنى هذا أن أموالهم على أصل الإباحة، إلا أنه ضمن ألا يخونهم؛ فهو يسترضيهم بهذه الأسباب للتحرز عن الغش، ثم يأخذ أموالهم بأصل الإباحة لا باعتبار العقد".&nbsp;&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5- نزوع متزايد نحو "المحلية":</strong> على الرغم من حرص قيادات القاعدة المتحالفة مع طالبان قبل نحو ربع قرن على جر الحركة نحو تبني خطابات "أممية" تنحو باتجاه إحياء "الخلافة" الإسلامية؛ فإن أدبيات طالبان في نسختها لعام 2021 تبدو بصدد العودة إلى خطاباتها التقليدية المغرقة في "المحلية"؛ فهي وإن كانت تسعى إلى تكوين حكومة "إسلامية"، فهي تعمل على بلوغ هذه الهدف في صورة "إمارة" لا "خلافة"، وهي –بخلاف النظام الإيراني– لا تهدف إلى تصدير نموذجها، كما أنها تنظيم أفغاني محلي ليس له أي توجه نحو إنشاء فروع معولمة خارج رقعة البلاد الجغرافية، كما هو الحال في التنظيمات الجهادية الأخرى؛ كالقاعدة وداعش.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>نسخة طالبان الجديدة؛ إذن، هي جماعة إسلامية محلية قبلية مسلحة، ليس لها أي قيادات أجنبية، وليست بصدد إقامة تحالفات مع تنظيمات الجهاد "المعولم" ذات الأفرع والولايات الممتدة جغرافياً، بل يمكن القول إن الحركة قد استوعبت خبرتها الماضية، وما جنته من تحالفها السابق مع تنظيم القاعدة وحمايتها لقياداته، التي أدت بها إلى فقدان السلطة في كابول، وغزو الولايات المتحدة وحلفائها البلاد لنحو عقدين من الزمن.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- تطوير دبلوماسية نشطة وقدرات تفاوضية:</strong> نجحت طالبان في بناء خبرات تفاوضية عميقة خلال العقدين الماضيين، على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الخارجي كذلك. داخلياً عمدت طالبان إلى إدارة العلاقات الاجتماعية مع القبائل والتكوينات العرقية الأفغانية على نحو جيد، مستندةً إلى حاضنتها الاجتماعية الرافعة من قبائل "البشتون"، وقوتها العسكرية المبادرة، بما قد يفسر حالة السقوط السريع للمدن الأفغانية في يد الحركة؛ الواحدة تلو الأخرى، ومن دون قتال يذكر.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وحسب محللين، فقد لا تكون طالبان الطرف الأقوى عسكرياً من حيث التسليح في أفغانستان، لكنها تبدو الطرف الوحيد الذي يمتلك زمام المبادرة للتوسع على الأرض والاستيلاء على السلطة. وقد ساعدها في ذلك واحدية القيم والتقاليد المشتركة مع مكونات المجتمع الأفغاني، في استراتيجيتها لإفشال المقاربة الغربية، من خلال اللعب على وتر الهواجس المحلية من المحتل "الأجنبي"، وانتهاك الكرامة للأفغان على يد من ينظر إليهم المكون القبلي التقليدي على أنهم "كفار"، والخسائر التي يتكبدها الناس في الأرواح والممتلكات عن طريق الخطأ، وحرمان المزارعين من زراعة الخشخاش مصدر الرزق الرئيسي لدى الكثيرين في البلاد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>أما على الصعيد الخارجي، فبعدما رفضت الولايات المتحدة أي مجال للحوار أو التفاوض مع طالبان قبل عشرين عاماً، حينما اتخذت قرارها بغزو أفغانستان؛ بدت واشنطن خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة أكثر سعياً إلى التفاوض مع طالبان التي باتت أكثر خبرة وقدرة تفاوضية؛ إذ رحبت واشنطن بفتح مكتب اتصال لطالبان في قطر، وعقدت جولات من المفاوضات بين الجانبين، أسفرت عن إبرام ما وصفته دوائر أمريكية بالاتفاق التاريخي بين واشنطن وطالبان بالدوحة، في فبراير 2020، لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان خلال 14 شهراً، بحضور المبعوث الأمريكي الخاص بأفغانستان زلماي خليل زاد، والمسؤول السياسي لطالبان الملا عبد الغني بارادار، ووزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو.&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5- التقارب مع القوى الكبرى غير الغربية:</strong> لم يكن لنسخة طالبان الأولى أي أصدقاء على الصعيد الدولي، لكن طالبان 2021 بدأت في نسج علاقات متوجهة شرقاً لكسب القوى الدولية غير الغربية، كالصين وروسيا، مستفيدةً من حالة الاستقطاب الدولي الحاصل بين واشنطن وكل من موسكو وبكين. ففي نهاية يوليو 2021، أوفدت طالبان عدداً من قياداتها إلى الصين لطمأنة بكين بأن الحركة لن تسمح باستخدام أفغانستان قاعدةً لشن هجمات تستهدف أمن الدول الأخرى، وهو ما ردت عليه بكين بأنها لن تتدخل في الشؤون الأفغانية، بل ستساعد في حل المشاكل وإرساء السلام. وقبل ذلك، قام وفد من طالبان بزيارة موسكو، في 9 يوليو 2021 لكسب ود روسيا من خلال تأكيد أن الحركة لن تسمح بوجود تنظيم "داعش" أو أي تنظيمات إرهابية على الأراضي الأفغانية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>إجمالاً، فإن طالبان 2021 ليست منبتة الصلة عن سابقتها التي حكمت أفغانستان قبل عقدين؛ فهي استمرار لها على صعيد تجذُّر الحاضنة الاجتماعية والخزان الفكري المذهبي، مع بعض التطوير من حيث المقاربة والآليات، لكنها في الوقت ذاته باتت أكثر نضجاً لأن تتبنى بعض التوجهات البرجماتية لكسب الأصدقاء، أو تحييد الأعداء على أقل تقدير، متسلحةً بخبرة متراكمة من القدرات التفاوضية، والحرص على المبادأة وبعث رسائل التهدئة إلى الآخرين، بأن طالبان قد تغيرت، وأنها لن تسمح بتحويل البلاد إلى ساحة للجهاديين والتنظيمات المتطرفة، وأنها باتت أكثر انفتاحاً على الجميع، بما في ذلك الروس والأمريكان أعداء الأمس القريب.</strong><strong></strong></p>

      

ما الذي تغيَّر في حركة طالبان خلال عقدين؟