عرض: صباح عبدالصبور

يمثل انتشار الجريمة المنظمة إحدى المعضلات التي تواجه القائمين على إدارة ميناء نيويورك، خاصةً في ظل تأثير ذلك سلباً على أنشطة الميناء، وما يرتبط باضطهاد لبعض العاملين في الشحن والتفريغ، بجانب ما يحدث من سرقة للشحنات، وهي أزمة ليست وليدة الظروف الراهنة، بل تمتد لعقود مضت. وفي ضوء هذا، نشر موقع "فايننشال تايمز" مقالاً للصحفي "جوشوا شافين"؛ مراسل مدينة نيويورك في صحيفة "فاينانشال تايمز"، وذلك بعنوان "الصراع السياسي على الجريمة المنظمة يشتعل في ميناء نيويورك"، ويُمكن تناول أبرز ما جاء في المقال على النحو الآتي:

مؤشرات سلبية

تناول المقال المؤشرات التي عكست قِدم أزمة الجريمة المنظمة في ميناء نيويورك، فضلاً عن بعض المتغيرات التي طرأت عليه؛ وذلك على النحو الآتي:

1– اعتبار الجريمة المُنظمة في الميناء أزمة قديمة متجددة: سلط المقال الضوء على السلسلة التي نشرها الصحفي الاستقصائي مالكولم جونسون، في جريدة "نيويورك صن" عام 1948، وهي السلسلة المكونة من 24 جزءاً، التي فاز صاحبها بجائزة بوليتزر بسببها، وأدت إلى عقد جلسات استماع في الكونجرس حول المشكلة، فضلاً عن إنتاج فيلم On the Waterfront "على الواجهة البحرية" عام 1954 في ضوئها. وتناولت هذه السلسلة أزمة الجريمة المنظمة في ميناء نيويورك؛ حيث كان زعماء الجريمة يعتدون على عمال الشحن والتفريغ المضطهدين، ويجوب مرابو القروض أرصفة الميناء، وتُسرق الشحنات باستمرار.

وأشار المقال إلى أنه بعد مرور 70 عاماً على تحقيق جونسون، حوَّلت التكنولوجيا والتجارة العالمية أكثر الموانئ المزدحمة على الساحل الشرقي الأمريكي إلى ميناء فيه حاويات يجري تتبعها بالحواسيب، ومحملة على سفن ذات أبعاد لم يكن من الممكن تخيلها من قبل. ومع ذلك، فإن وجود الجريمة المنظمة لا يزال يمثل مشكلة. وقد أشعلت هذه المشكلة نزاعاً بين ولايتي نيويورك ونيوجيرسي – اللتين تقعان على جانبي الميناء – حول الدرجة التي لا تزال الجريمة قائمة فيها، وأفضل السُبل لضبطها.

2– جهود قديمة لمواجهة الجريمة المنظمة في ميناء نيويورك: أشار المقال إلى أن جهود مواجهة الجريمة المنظمة في الميناء قديمة، ودلل على ذلك بما حدث عام 1953 عندما اتفقت ولايتا نيويورك ونيوجيرسي على تأسيس "لجنة الواجهة البحرية لميناء نيويورك"، وهي اللجنة التي كان هدفها الرئيسي القضاء على الجريمة المنظمة في الميناء. ويقود اللجنة مفوضان يعينهما حاكما الولايتين، وتشمل نحو 100 موظف، بما في ذلك الشرطة ومدققو الحسابات. وتتمتع اللجنة بسلطة العمل في كلتا الولايتين، وإبعاد أي عامل تعتقد أنه يشكل خطراً على الميناء أو يفتقر إلى السلوك المطلوب.

3– سعي نيوجيرسي إلى الانسحاب من لجنة مُكافحة الجريمة بالميناء: أشار المقال إلى أن أحد التحديات التي تواجهها اللجنة التي تستهدف محاربة الجريمة المنظمة في الميناء، تتمثل في سعي نيوجيرسي إلى الانسحاب من اللجنة؛ إذ وقَّع كريس كريستي الحاكم الجمهوري السابق تشريعاً في آخر يوم له في منصبه في عام 2018 لسحب ولاية نيوجيرسي من الاتفاق. وتولى خليفته الديمقراطي فيل مورفي القضية في مارس، وقدم موجزاً للمحكمة العليا الأمريكية، أشار فيه إلى أن "الاتفاق كان منطقياً في عام 1953، لكن لا معنى له الآن".

وحسب المقال، تُجادل نيوجيرسي بأن التكنولوجيا قد قضت على معظم الوظائف التي أُنشئت اللجنة لتنظيمها؛ إذ إن الميناء الذي كان يضم 36000 عامل في عام 1958، بات يضم 5801 فقط من العمال اعتباراً من يونيو 2020. ووصفت الولاية اللجنة بأنها "بيروقراطية غير خاضعة للمساءلة ولها ماضٍ متقلب"؛ ما أعاق – بلا داعٍ – التنمية الاقتصادية للميناء؛ "حيث بحثت اللجنة عن مهمة لتبرير استمرار وجودها، وحماية الوظائف لقادتها" وفق الدعوى التي أقامتها نيوجيرسي. وكان "مورفي" قد أشار إلى أنه يعتقد أن شرطة الولاية ستؤدي المهمة على نحو أفضل، مُشيراً إلى أن اللجنة باتت "غير فعَّالة".

4– حديث عن تحول الميناء إلى لمسرح للجريمة المنظمة: لفت المقال إلى أنه على الرغم من معارضة نيويورك واللجنة نفسها انسحاب نيوجيرسي؛ إذ جادلا بأن الولاية لا يمكنها الانسحاب من جانب واحد من الاتفاق، وهو ما أدى إلى عدم بت المحكمة في النزاع حتى الآن، فإن مسؤولي اللجنة عن ولاية نيويورك يصفون الميناء بأنه تحول إلى واجهة بحرية في قبضة نقابة فاسدة وجريمة منظمة؛ حيث تنتشر الرشاوى وعقود العمل الاحتيالية.

ووفقاً للمقال السنوي للجنة لعام 2019–2020، أشير إلى أن اللجنة دفعت 147 مليون دولار من الأجور الزائدة إلى 590 موظفاً نقابياً، كثير منهم لم يُطلب منه الوجود في الميناء. ولتأكيد هذه المشكلة، شمل المقال أيضاً صور ستة رجال موقوفين تربطهم صلات مزعومة بعائلة جينوفيزي – وهي واحدة من العائلات الإيطالية الخمس التي سيطرت على الجريمة المنظمة في نيويورك وما حولها – حُكم عليهم بالسجن في العام نفسه بتهمة تقديم القروض غير القانونية بفوائد ربوية عالية وغسيل الأموال والمقامرة في الميناء. ووفقاً للمقال، صرح "والتر أرسينولت" المدير التنفيذي للجنة، في دعوى قضائية في وقت سابق من هذا العام، اعتراضاً على تحرك نيوجيرسي: "على الرغم من النجاحات الملحوظة التي حققتها اللجنة، لا تزال الجريمة المنظمة موجودة إلى حد كبير على الواجهة البحرية".

تحركات مضادة

عقب تناوله أوجه وأسباب الأزمة، سلط المقال الضوء على جملة من التحركات التي تبنتها لجنة الواجهة البحرية لمواجهة الفساد ومُسببات الأزمة؛ وذلك على النحو الآتي:

1– تحرك قيادات لجنة الواجهة البحرية لمواجهة الفساد: ذهب المقال إلى أن تحرك جولدستوك عام 2008 بوصفه مفوضاً عاماً للولاية، كان سببه الرئيسي هو مواجهة الفساد الذي تعاني منها لجنة الواجهة البحرية، وهو ما أكده تعيين أرسينولت المدعي العام المخضرم لإدارة اللجنة، الذي قال إن التوترات مع النقابة الدولية لعمال الشحن والتفريغ تزايدت عندما بدأت سلطات إنفاذ القانون أخيراً تؤدي وظيفتها. وأشار جولدستوك إلى أنه "في اللحظة التي تأكد لنا فيها أن المجرمين لن يتمكنوا من الذهاب إلى الواجهة البحرية، وأنه يجب أن يكون هناك فرص توظيف عادلة؛ ثارت نيوجيرسي بشدة".

2– إجراءات صارمة لمواجهة الرشاوى والمافيا في الميناء: أشار المقال إلى أن أول إجراءات جهات المراقبة في تلك الفترة لمواجهة الفساد تمثلت في الإعلان عن أن مقدار كسب عمال الشحن والتفريغ، الذي قُدر بـ400 ألف دولار سنوياً، لا يتناسب مع "العمل الضئيل الذي يقومون به"، كما أشارت تقارير جهات المراقبة إلى أن بعض العمال، وبسبب عقود النقابة القديمة، حصلوا على أجور 27 ساعة عمل في اليوم. كذلك كشفت جهات المراقبة أن العديد من أقرباء "فنسنت جيجانتي الملقب بـ"ذا تشين" – وهو زعيم عائلة الجريمة جينوفيزي الراحل – كانوا مُعينين في الميناء، وفي 2012 كان هناك 9 من أقاربه مُعينون في الميناء، حتى إن أحد المسؤولين في جهات المراقبة قال: "الأمر يدور حول من يُسيطر على التوظيف". ووفقاً للمقال، فإن اللجنة تتمتع بسلطة التدقيق في التعيينات المحتملة في الميناء. ويذكر المقال أنه في عام 2019 – 2020، رفضت اللجنة 18% من المرشحين الذين أحالتهم النقابة الدولية لعمال الشحن والتفريغ لوظائف في الميناء؛ بسبب ادعائها بأن لديهم روابط مع المافيا.

3– تخفيف قبضة نقابة الشحن والتفريغ على الميناء: أشار المقال إلى أن إحدى الآليات التي سعت اللجنة إلى تبنيها لمواجهة الفساد، تمثلت في السعي إلى تهميش النقابة الدولية لعمالة الشحن والتفريغ، وتخفيف قبضتها على الميناء؛ وذلك عبر تعزيز التنوع؛ إذ بدأت اللجنة تراعي التكوين العرقي والجنساني للقوى العاملة في الميناء، ثم ضغطت على النقابة لإعطاء مزيد من الوظائف للمرشحين من الأحياء ذات الأغلبية السوداء والأصول اللاتينية التي تحيط بالميناء. ويلفت المقال إلى أن بعض الآراء ذهبت إلى أن تعزيز التنوع من شأنه أن يقطع الروابط الطويلة الأمد التي تم تكوينها مع المافيا، خصوصاً أن اللجنة سوف تكون حريصة على تعزيز تعاونها وتوثيق علاقتها بالقوى العاملة الجديدة، فضلاً عن أن إحدى المُسلَّمات، وفقاً لهذه الآراء، هي أن "التنوع والتوظيف العادل من أقوى أدوات مكافحة الفساد".

تحديات متعددة

أشار المقال إلى جملة من الأسباب يُمكن من خلالها فهم استمرار أزمة الجريمة المنظمة في الميناء؛ وذلك على النحو الآتي:

1– خلافات بين لجنة "الواجهة البحرية" ونقابة الشحن: أشار المقال إلى أن أحد التحديات التي تقف عائقاً أمام مواجهة أزمة الجريمة المنظمة، ترتبط بالصراع الذي يخوضه المدعون العامون السابقون ورؤساء النقابات، وهو الصراع الذي كانت دوافعه شخصية في كثير من الأوقات وفقاً للمقال. وفي هذا السياق، يقول جون ناردي رئيس جمعية النقل البحري في نيويورك، التي تمثل الشركات التي تمتلك سفن الشحن وتدير المحطات: "تواجه لجنة الواجهة البحرية ونقابة عمال الشحن مشكلة: إن كلا منهما تكره الأخرى، ونحن عالقون في المنتصف" وفق تعبيره.

2– تماهي شركات الشحن مع عصابات المافيا: لفت المقال إلى أن الميناء كان أحد أهداف عصابات المافيا الكبرى، وتعاظمت أهميته بالنسبة إليها في السنوات الأخيرة؛ وذلك في ضوء سيطرة النقابة الدولية لعمال الشحن على مقاليد الأمور؛ إذ إنها تتمتع بالقدرة على إبطاء العمل أو تسريعه وفقاً لإرادتها؛ ما يؤدي إلى خنق إحدى العُقد الحيوية للتجارة العالمية. ويسلط المقال الضوء على ما قاله رونالد جولدستوك المفوض السابق للواجهة البحرية في نيويورك، الذي قاد سابقاً عمليات مكافحة الجريمة المنظمة في الولاية؛ حيث أشار إلى أن شركات الشحن الكبرى تتسامح مع الوضع الراهن؛ لأن لديها بدائل قليلة.

وأضاف "جولدستوك" أن السبب وراء قبول شركات الشحن للأمر الواقع، يرتبط بالتكلفة الباهظة للسفن، وعدم إمكانية تحقيقها عوائد إلا بالحركة الدائمة، وإذا توقفت السفينة فإن تكلفة إعادة تشغيلها قد تصل إلى 100 مليون دولار أو أكثر، ومن ثم سوف تتماهى هذه الشركات مع عصابات المافيا؛ حتى لا تتعطل السفن.

3– معاناة لجنة الواجهة البحرية نفسها من الفساد: بحسب المقال فإن لجنة الواجهة البحرية نفسها تعاني من الفساد؛ فقد وصف مقال صادر في 2009 لمفتش عام في نيويورك، اللجنة بأنها "مكان للمحسوبية والمحاباة"؛ حيث أساء المسؤولون في اللجنة إدارة الأموال، وفي بعض الأحيان ساعدوا المجرمين على إخفاء أنشطتهم، وهو الأمر الذي أكده المقال السنوي للجنة الذي قال: "لن يكون من المبالغة القول إن العام المالي 2008–2009 كان عاماً مضطرباً بالنسبة إلينا في لجنة الواجهة البحرية".

ويرى المقال أن أحد التحديات القائمة التي تحول دون المواجهة الفعالة للجريمة المنظمة، يتمثل في الانتقادات الموجهة للجنة الواجهة البحرية، خصوصاً من سكان المناطق المحيطة بالميناء؛ إذ توصف اللجنة من قبل هؤلاء بأنها أشبه بالاحتلال الذي يخوض حرباً قديمة لا تتوقف، فضلاً عن انتقادات لسياسات التوظيف التي تتبناها اللجنة، و"التعنت ضد الإيطاليين"؛ بسبب اشتباهها في تعاونهم مع عصابات الجريمة المنظمة.

يُضاف إلى ما سبق، خلافات اللجنة مع النقابة الدولية لعمال الشحن؛ ففي مارس وبعد أن رفعت نيويورك دعوى قضائية لمنع نيوجيرسي من الخروج من اللجنة، أصدر هارولد داجيت رئيس النقابة الدولية لعمال الشحن والتفريغ، بياناً شديد اللهجة استنكر فيه ما وصفه بـ"الحكم الترهيبي" الذي تُمارسه اللجنة، مُشيراً إلى أن النقابة لن تلزم الصمت إزاء ما وصفها بـ"الممارسات المَشينة التي قامت بها لجنة الواجهة البحرية"، ومؤكداً ضرورة حل اللجنة.

وأشار المقال إلى أن "داجيت" شخص ذو سوابق قضائية؛ ففي عام 2004 واجه مع ثلاثة آخرين اتهامات بالتآمر والابتزاز والاحتيال عبر البريد والاتصالات اللا سلكية، وخلال المحاكمة في 2005 شهد عضو المافيا جورج بارون بأن عصابات المافيا ساهمت في تنصيب "داجيت" رئيساً للنقابة، وضغطت من أجل ذلك، وأشار أيضاً إلى أن رئاسة "داجيت" للنقابة عززت نفوذ عائلة جينوفيزي، فضلاً عن أنها ساهمت في إرسال عقود النقابة للشركات التي تُسيطر عليها عصابات المافيا.

4– تحول مركز ثقل الميناء من نيويورك إلى نيوجيرسي: أشار المقال إلى أن أحد المتغيرات المهمة التي حدثت والتي تحول دون المواجهة الفعالة للجريمة المنظمة في الميناء، يتمثل في تحول مركز ثقل منطقة الميناء من نيويورك إلى نيوجيرسي؛ وذلك في ضوء أن المياه هناك أعمق، وأن هناك مساحة أكبر لاستيعاب الحاويات.ووفقاً للمقال، تستحوذ نيوجيرسي الآن على 90% من نشاط الميناء، وهو الأمر الذي رسَّخ شعوراً متنامياً لدى سكان نيويورك بأن الطاولة قد انقلبت عليهم فيما يتعلق بالميناء، وهو الأمر الذي زاد النزاع بين الولايتين.

5– تسهيل بعض المسؤولين الفسادَ في الميناء: أشار المقال إلى أن بعض المسؤولين يُحاولون التماهي مع الوضع الحالي للميناء؛ فمثلاً يتبنى "ناردي" الذي أصبح رئيساً لرابطة نيويورك للشحن في 2012، وجهة نظر فلسفية للوضع؛ إذ يتفاوض على اتفاقية عمل جديدة مع داجيت كل ستة أعوام، ثم يدفع أعضاء جمعيته رسوماً عن كل حاوية لتمويلها، وهو يعترف بوجود ترتيبات مبالغ فيها في هذه العقود التي تُعد موروثة من الاتفاقات القديمة، ويتوقع بمرور الوقت، أن يتخلص منها تدريجياً. وفي الوقت ذاته، يقول إن هدفه الأساسي يتمثل في السماح لمزيد من الحاويات بدخول الميناء، وخفض تكلفة العمالة لكل حاوية على أعضاء جمعيته.

وختاماً، أشار المقال إلى أن مبدأ التطبيق الصارم للقانون وإجراءات اللجنة لمواجهة الفساد، لا تكفي لوحدها لمواجهة الجريمة المنظمة، وهي الجريمة التي وصفها المقال بأنها "لا نهاية لها". وأشار أرسينولت في هذا السياق إلى أن المواجهة تقتضي مع التطبيق الصارم للقانون، تطبيق مبدأ المُقاضاة بحق كل من يثبت تورطه في دعم الجريمة المنظمة، كما ذهب المقال إلى أن الجريمة المنظمة موجودة في الميناء مثل أي "صناعة" أخرى، وأن القول بأنها غير موجودة "ضرب من الحماقة".

كيف يؤجج التنافس السياسي "الجريمة المنظمة" في ميناء نيويورك؟